تساؤلات في ما يخص معضلة لحراطين
بقلم: صدف ولد بلال يئست من أن تقع عيني علي مقال أو يمر عبر سمعي خبر يتعرض بصدق للمحنة التي تعيشها شريحة "لحراطين".
إنه كان من المفروض أن ينال هذا الموضوع ما يستحقه من عناية، خاصة من طرف الإعلاميين الذين نجدهم علي العكس من ذالك يمارسون تعتيما مطلقا علي كل ما من شأنه أن يبرز هذه الأزمة الاجتماعية و الوضعية المزرية التي تعاني منها هذه المجموعة الهائلة من مجتمعنا.
كما كان ينبغي أن يجد هذا الموضوع نصيبا كبيرا من أنشطة رجال السياسة، غير أنهم علي الرغم من كثرة خلافاتهم، اتفقوا كلهم علي شيء واحد، وهو تحاشي موضوع معاناة شريحة "لحراطين".
و انطبق هذا التصرف الأناني علي جميع الفئات الأخرى من مثقفين و أكاديميين و مفكرين الخ...
و كان قد مارس رجال الدين من قبلهم، من علماء و فقهاء و خطباء، تجاهلا لهذه القضية.
و لم تأت، طبعا، تلك التصرفات من تجاهل و تعتيم و تحاشي، وليدة صدفة بل جاءت تماشيا مع رغبة مثيرة للجدل أو بالأحرى منافية للأخلاق و القيم الإنسانية.
كلهم تناسى تلك المحنة بل كلهم تواطأ مع تلك الإجراءات المخلة بالتعايش السلمي والمجحفة بحقوق الجار والأخ في العقيدة و اللغة و العادات و التقاليد.
و السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا يا تري؟
لماذا تم تحاشي طرح هذا الموضوع ؟
و ما هو دور الصحافة إذا كانت لا تعكس أمراض المجتمع؟ و ما هو دور رجال السياسة إذا كانوا لا يقاومون التيارات المعاكسة و المناهضة للنمو الاجتماعي و الاقتصادي لنصف المجتمع؟
و ما هو دور المفكرين إذا كانوا لا يملكون أي تأثير إيجابي علي الرأي العام الوطني؟
و أين رجال الدين و إرشاداتهم في مجال الأخلاق إذا علمنا أن نبي الإسلام عليه السلام قال: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق؟
و نحن، طبعا لا نحتاج لذكاء خارق لإدراك كم الفوارق شاسعة و كم الهوة واسعة بين فئات مجتمعنا. و أن كل ذالك كان إراديا. و لا نحتاج لإجراء إحصاء لنثبت أن في مجتمعنا فئة مغيبة و مهمشة و مجوعة. فالظاهرة ظاهرة للعيان
و لقد بات من الواضح أنه ليس هناك و لا حتى مشروع نية للقضاء علي هذه الظاهرة في مجتمعنا بل علي العكس هنالك من يريد ترسيخها واهما أنه يستطيع فرض امتيازات أنانية و منافية للأعراف و الأخلاق في عصر الأنوار.
فلو كان هناك اهتمام من طرف الحكومات التي تعاقبت علي موريتانيا منذ استقلالها بالتخلي عن ممارسة تلك التصرفات المعيقة للاندماج الذاتي لهذه الشريحة لكنا اليوم نطرح أنواعا أخري من الأسئلة أقل تعقيدا.
غير أنه في مجتمعنا القبلي و المحافظ خاصة علي العادات الأرستقراطية توجد الطبقية في أشكالها القرون أوسطية حيث المراكز والرتب الطبقية تتوارث بكل سذاجة. فعلي الرغم من الإسلام كدين مساواة و الدستور الموريتاني في مادته الأولي و إعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في بنده الأول... فعلي الرغم من كل هذا و ذاك بات في مجتمعنا من لا يزال ممارسا و متمسكا بنهج الطبقية المخالفة لكل ما تقدم ذكره. فهي تمنح حسب الولادة العزة و الهيبة و الاستئثار و الأسبقية في كل شيء لطبقة معينة و بالمقابل تفرض الذل و الهوان و الحرمان من كل شيء علي طبقة أخري.
فأنانية ألئك و شغفهم بامتيازات جشعة و جهل هؤلاء لحقهم في العيش بكرامة علي حد السواء مع غيرهم جعل هذه المعتقدات تبقي في مجتمعنا لتتعايش مع الأفكار التقدمية المعاصرة متسببة في إربتاك لدي الكثيرين لفهم و تقبل روح عصر الألفية الثالثة حيث العدل و المساواة و احترام حقوق الإنسان و حيث الحريات و مبادئ الديمقراطية.
و من المخيب للآمال أن تجد المثقفين في مجتمعنا ممن درسوا في مدارس عليا أجنبية لا يزالون يرون الطبقية و يمارسونها علي أنها شكلا عاديا تماما كما كان أسلافهم يمارسنها خلال القرن الماضي.
بل إن البعض يبررها متعللا بوجود تهميش لسكان أمريكا الأصليين و السود في الولايات المتحدة علي يد البيض أصحاب المبادرات الإنسانية.
و هنا لا بد من إلقاء نظرة خاطفة علي جزء من سياسة الولايات المتحدة في إطار مكافحة الفقر و التهميش للسود فنقول علي سبيل المثال أن الولايات المتحدة قد تبنت في ستينيات القرن الماضي سياسة عرفت آنذاك بالتمييز العنصري الإيجابي من خلاله يقام بتسهيلات للسود بصفة خاصة للحصول أولا علي الوظائف العالية ثانيا للولوج في الجامعات والمدارس العليا و ثالثا للانخراط في ميدان الإعلام.
و لقد أعطت هذه السياسة نتائج جد مشجعة فبينما كانت نسبة السود من الطبقة الوسطي لا تتجاوز 13% سنة 1960 ارتفعت هذه النسبة لتصل إلي 66% سنة 2000.
و في جنوب إفريقيا و بعد سقوط نظام "آبارتايد" الآثم تم تبني سياسة عرفت ب black empowerment
من خلالها يقام بإنشاء طبقة جديدة من رجال الأعمال السود.
و ليس نجاح "أوبا ما" في السباق إلي البيت الأبيض إلا مثالا ساخرا علي أن تأثير النسب و البشرة علي الإنسان أصبح من الماضي في العالم الحر.
فحيث توجد الطبقية يوجد الظلم و حيث يوجد الظلم يوجد التخلف و حيث يوجد التخلف يوجد عدم الاستقرار.
و قد قيل أن توطيد الملك يكمن في العدل و لو صاحبه الكفر و ليس في الدين إذا صاحبه الظلم.
و إذا حاولنا الرد علي السؤال الذي طرحناه آنفا: لماذا تم تحاشي إثارة هذه المعضلة فقط كبداية لدراستها و القضاء عليها نقول أن هناك أسباب كثيرة نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر:
- سوء تقدير لحجم هذه الأزمة و الاستخفاف بمن يقع ضحيتها.
- أنانية البعض و حب الاستعلاء بطرق همجية.
- جهل البعض و خاصة الضحايا الذين اغتيل فيهم روح الطموح حتى للعيش بكرامة.
- توجيه الإعلام و كل الجهود الأخرى لقضايا أقل شأنا من هذه القضية.
- استحواذ الطبقة "العليا" حسب الترتيب الطبقي و العنصري علي سدة القرار و موارد الخيرات و علي وسائل الإعلام.
- تخوف بعض المنصفين من فئة الاستعلائيين من الضغوط بل التهديدات العائلية و حتى القبلية غلي كل من تخول له نفسه شجب هذه الممارسات و لو بطريقة خجولة.
- تخوف بعض نشاط طبقة "لحراطين" نفسها من المهاجمة العنيفة التي يتعرض لها كل من يستنكر علنا جميع أنواع الظلم و القمع من استرقاق و تهميش قسري و استهداف مبيت لشريحة مسلمة و مسالمة.
و لا بد أن نمر مرور الكرام بهذه النقطة الأخيرة حيث يوصف بعض أو بالأحرى كل ناشطي هذه الطبقة بالعنصريين و بأصحاب العقد النفسية و بالعملاء و المتاجرين و الحاقدين و حتى بالملحدين إلي غير ذالك من الأوصاف البذيئة. فلماذا كل هذا التحامل علي من ينشطون بطرق حضارية من أجل قضية عادلة تخدم مصلحة البلد و أمنه و استقراره؟ قحتي الإرهابيين من انتحاريين و تكفيريين و متشددين لا يتعرضون إلي هكذا هجمة.
ثم لماذا السكوت عن من لا يدخرون جهدا في سبيل تكريس التهميش العنصري و الطبقي و في نفس الوقت مجابهة المناوئين له؟
أ ي نوع من الكيل هذا؟ فهو يقينا ادهي و أمر من الكيل بمكيالين المحسوب للغرب.
ففي جانب نجد الممارسة الفعلية لإعاقة شريحة كاملة اجتماعيا و اقتصاديا و نفسيا و في الجانب الآخر نجد الحواجز البشرية كأنها صمامات أمان ضد أي استنكار لما يحدث علي أرض الواقع.
إن الذين ينكرون وجود استهداف طبقي و عنصري لشريحة لحراطين هم بكل بساط فئة أعمتها رغبة جامحة في الاستعلاء الهمجي و الاستئثار الأناني الضيق و الجشع. فهذه الفئة تحن إلي عهود أسواق النخاسة و الانتهاكات الصارخة لأبسط حقوق الإنسان. فإذا أتيح لهذه الفئة أن تعايش من جديد ذالك العهد الغابر لمارست كل أنواع الاسترقاق بدون أي وازع ديني أو أخلاقي أو إنساني معتبرة في نفس الوقت أن ذالك من أنبل المعاملات.
و هذا ينطبق علي كل من لا يستطيع أن يجعل نفسه مكان غيره لاستشعار بعض من آلامه. فلسان حاله يردد المثل الحساني "خبطة ماه فيك فجدر".
و هل يستطع أحد أن ينكر العزف علي أوتار الطبقية داخل المؤسسات الدراسية ابتداء من السنوات الأولي من التعليم مرورا بضبابية توزيع المنح الدراسية و انتهاء باحتكارية التوظيف. و هنا لا يسعني إلا أن أقول كلمة لؤلئك الذين يزعمون بكل مكر أن غياب لحراطين عن التوظيف يرجع إلي جهلهم و انعدام حملة الشهادات في صفوفهم! أقول لهم إذا أن تصريحاتهم تلك جاءت مشحونة بالمغالطات و المخادعات. فعلي الرغم من جميع المضايقات و المحاولات لثني أبناء هذه الشريحة عن التعليم بات في طياتها العديد من حملة الشهادات العليا و الأكفاء. لكنهم لم يوظفوا لسببين: أولا معضلة الأصل و البشرة و ثانيا العقوبة في حق كل من أريد له إنهاء مشواره التعليمي و رفض...
و ما فساد قطاع التعليم إلا عملية تخريبية في وجه أبناء هذه الشريحة و الذين لا يستطيعون ماديا مزاولة التعليم الحر المنتشر بكثرة بصفة مثيرة للجدل.
و من يستطيع أن ينكر الاستهداف المبيت ضد شريحة لحراطين من خلال الانقلابات العسكرية الأخيرة و التي جاءت كلها في نفس السياق و كأنها جرعات تخديرية لإصابة هذه الشريحة بشلل و ترويعها و النيل من أطرها و نشاطها.
و هل تستطيع المؤسسة العسكرية توفير العدالة التي ما فتئت تتشدق بها إذا كانت هي نفسها تفتقر إليها.
يمكن أن نأخذ دروس من بلدان قد نختلف معها جوهريا في معاملة قضايا نشتركها معها لكن يجب أن نأخذ العبر من بلدان قد نتفق معها مبدئيا لما آلت إليه تلك البلدان لأسباب نشتركها معها.