مفتتح: حالتان تلتهمان الواقع، الحلم وإبراهيم الكوني
يمكن أن نجد على الخارطة الأدبية المصرية أكثر من نجيب محفوظ، ينقلون إلينا خفايا الحياة في الحواري المصرية بكل تفاصيلها، ويمكن أن يقدمّ لنا المشهد الروائي العالمي أكثر من غابرييل ماركيز ليمتعنا بروائع الرواية، ولكننا لن نجد في طول وعرض هذا العالم سوى " إبراهيم الكوني" واحد وواحد فقط ، فهو الذي أدخلنا إلى مجاهل الصحراء فعرفنا إلى عالمها المليء بالإثارة والتشويق، لدرجة يدفعنا فيها أحياناً إلى التسليم بأن متعة الحياة لا تستقيم سوى في تلك المساحة الهائلة من الياباس.
إبراهيم الكوني هو النافذة الوحيدة التي أتاحت للعالم الإطلال على حياة الطوارق- سكان الصحراء الكبرى- ليكتشف هذا الكيان الغامض بكل أنشطته الاجتماعية والاقتصادية، وليضعنا مباشرةً أمام ميثالوجياه الشعبية، الغنية بالأسطورة المتعة.
الكوني ليس مجرًّد مرآة عاكسة لما شاهده أوسمعه عن الحياة الصحراوية، يسوق مشاهدها بشكل تقريري أو إخباري، أنه يتمتع بحس مرهف للغاية، إذ يُحيل تلك الكتل الرملية الجافة ونتوءات كاف الجنون الصلدة، ورياح القبلي القاسية، وقطعان المهاري المنفلته في مجاهل الصحراء إلى صورة روائية ملفته، حتى مغلفّات الشاي الأخضر المكتوم في خزانة بيتك، تتحول إلى شيء أشبه بالتبر عندما تقرأ للكوني، للرجل مقدرة غريبة لإكسابك عادة من عادات الطوارق بمجرد قراءة عابرة إنه بكلمات بسيطة يحيل الياباس وصهد القبلي المزعج إلى مبهج من مباهج الحياة، حتى الفراغ يحيله إلى صمت فلسفي.
قدرته على صياغة التراكيب اللفظية الأنيقة والممتعة، واقتراب أسلوبه السردي من الصور الشعرية في بعض المواضع- في وقت يستخدم ذات الأدوات " الصحراء- المهري- القبلي- القبيلة ... الخ" في كل رواياته تكسبه المزيد من الأهمية.
السيناريو عند الكوني
ربما يتساءل القارئ العابر لروايات الكوني: لماذا الإصرار على تحديد الزمان والمكان وما يتبعهما من تفصيل أخري؟ كوصف الملابس، ورسم حركة الشخوص، بل وحتى تحديد أهمية المشهد، أو ما يعرف بحجم اللقطة، ويمكن أن نلمس ذلك بشكل واضح في رواية المجوس بجزأيها والتي سنستشهد بها في مواضع قليلة كأنموذج فقط.
المشتغلون بكتابة السيناريو أكثر من يعاني قلق ترجمة النص، فالنص " الخام" سواء كان فكرة أو قصة أو رواية عادة ما يكون مليئاً بالصور اللفظية الجمالية، التي تصف الوجدانيات، والتي يصعب الإيحاء بها لذلك ، فهي فقيرة إلى رسم الحركة، ووصف الزمان والمكان وتحديد لون ونمط "الإكسسوارات" فجملة في أية رواية "تصف فتاة تنظر إلى القمر الشاحب شحوب وجهها" لا يمكن أن تبوح بأكثر من ذلك ولا يمكن ترجمته بسهولة إلى مشهديه.
(في الجانب الآخر من السهل، على طول العراء المجاور لـ دايدينان الجنوبي، تطاول عبيد الأميرة في السماء وبدؤوا في تشييد البنيان أيضاً.. انتشروا على السفوح منذ صباح اليوم التالي للوصول وبدؤوا يصففون الأحجار بجوار المضارب.. احتجبت الأميرة في الخباء وتعاون الزنوج في تثبيت أوتاد الخيمة الجلدية الكبيرة الموسومة بنقوش الزينة ورموز التعاويذ .. في الليل طوّقها الريح بحزام من الرمال فجاء الأتباع في الصباح وأفرغوها في الغرائر ثم عادوا بالجمال وعلقوها في طوق لحماية الخيمة من غزوات الغبار ورجعوا لاستجلاب صخور البناء.
"المجوس ـ الجزء الأولـ ص 46"
في هذا المقطع نلاحظ مقدرة الكوني على إقحام كم كبير من التفاصيل الزمنية والمكانية دون التفطن إلى كونها مقصودة لسلامة السرد.
(وتعاون الزنوج في تثبيت أوتاد الخيمة الجلدية الكبيرة الموسومة بنقوش الزينة ورموز التعاويذ)
لماذا يكرر الكوني وصف " الإكسسوارات" والأثاث ؟ ككاتب سيناريو أمين، ونحن نعلم من رواياته السابقة أن الخيمة في الصحراء لا تكون إلا من الجلد عادة، لماذا يصف لنا كل حركة بدقة متناهية؟
هل تعمُّقه في مجال دراسة السيناريو هو الذي قاده إلى الأسلوب؟ أم أنه درس السيناريو خصيصاً لإحكام القبض على زمام الرواية " الزمانية ـ المكانية" لكونه يستعمل أدوات وخامات كـالصحراء ـ الطوارق) التي لا يمكن أن تكون واضحة عند المتلقي إلا بإمعان الوصف والتصوير.
(في الخيمة خيّم السكون وبدأت شعائر الاجتماع، هدأ القبلي وارتفع اللهب ورائحة الشواء، سعل الزعيم مرتين قبل أن يختتم مراسم الاحتفاء ويمارس صلاحيات الزعامة..أحكم القناع الأزرق حول وجهه وقال:
بلغني أنكم تطلبون الإذن بالجوار والاستقرار، تابع الرسول مثلثات الكليم بسبابتة النحيلة، وأجاب بعد صمت جليل:
- حق
أقبل أحد الأتباع وطاف على الحاضرين يوزًّع الدور الأول من الشاي، رشف الزعيم ووضع الكأس بجوار الركيزة).
المكان/ الخيمة
الزمان/ ليلي
سعل الزعيم مرتين/ أحكم القناع الأزرق حول وجهه/ تابع الرسول مثلثات الكليم بسبابته النحيلة وضع الكأس بجوار الركيزة/
كلها إحداثيات وصفية إما أن تحدد حجم اللقطة أو نوع ولون الإكسسوار، أما التوقيت فقد عرفناه ضمناً من الجملة الثانية "هدأ القبلي وارتفع اللهب ورائحة الشواء".
فمن طبيعة القبلي أن يهدأ ليلاً، وأفضل وقت للشواء هو الليل عند حلقات السمر.
مواءمة بين جمال السرد وأمانة الوصف
كثيراً ما يربك الروائيون المتلقي بتواصل السرد من خلال إغراقه في مشاهد مملة تتراص فيها الجمل والصور بشكل إنشائي لأهدف له سوى الحفاظ على تقاليد الرواية شكلياً، غير أن الكوني تمتع بخاصية تجاوزُ هذه العقبة وأجاد أسلوب القطع في مواضع القطع الصحيحة والتي تشابه أسلوب النقل من مشهد إلى آخر مغاير تماماً في الخيالة .. كما أنه أتقن تبادل الحوار بينه وبين الراوي الذي يستلم منه مهمة السرد في الرواية.
في الجلسة التي جَمَعتْ شيخ القبيلة والرسول وبعض رجال القبيلة تتحول اللقطات إلى دوران متكرر لالتقاط نفس الوجوه، وحتى يكسَّر من حدة تتابع هذه اللقطات فأنة يدخل لقطةً اعتراضية" " "cut awayتتمثل في تركيز اهتمام القارئ على إصبع الرسول وهو تتابع المثلثات البيضاء فوق الكليمة التواتية.
"وعندما أعلن الحاجب عن وصول المهاجر هبَّ واقفاً فنهض الشيوخ تباعاً تقدمهم لاستقباله .. ولكن الرحالة دخل الرواق بخطوات واسعة كأنه مازال يقطع فلوات الصحراء، شيخ نبيل طويل القامة، نحيل صارم، في عينيه تصميم المهاجرين الأبديين وحنانهم أيضاً.. وجنتاه بارزتان خلف لثام رمادي هزيل، بشرته محروقة بالشمس الطاغية ، يطوّق خاصرته بحزام الكتان ويمسك بيده اليمين عكازاً قديماً من السدر، تقدم نحو السلطان وعانقه طويلاً، ثم تراجع خطوتين".
ليس هناك من رسم مشهدي أكثر تفصيلاً من هذا السرد والذي يتعدى التزامات الروائي التقليدي تجاه المتلقي، إذ يمكن أن يؤدي هذا الإفراط الوصفي زماناً ومكاناً وحركة في إرباك النص فيتحول من قطعة لفظية جمالية إلى سيناريو متخن بالتفاصيل عندما يحملها الروائي أكثر مما تحتمل، غير أن الكوني بمواهبه الفطرية وارتكازه على خامات بنيوية غير متاحة لغيره " ميثالوجيا الصحراء" وقدرته على ابتكار الصور البلاغية كالمحسنات البديعية البعيدة عن البهرجة والمعاني المبهمة، واستطاع أن يوائم بين المتعة والوصف التوثيقي، ناهيك عن كون النص قطعة شعرية بامتياز.
لكن السؤال المطروح دائماً من أي للكوني بكل هذه الالتقاطات، وهذه التفاصيل، وهو الذي غادر الصحراء غضاً صغيراً يافع القلب، الإجابة لدي الكوني فقط لو وجد من يتجرأ ويسأله هذا السؤال.
_____
* نشرت بالعدد 11 من صحيفة المشهد الليبية واعيد نشرها بموافقة الكاتب.