بيروت – عبد الله أحمد
[url=mailto://][/url]
صدر عن «المنظمة العربية للترجمة»، وبدعم من مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم وتوزيع «مركز دراسات الوحدة العربية»، كتاب «التحول الكبير: الأصول السياسية والاقتصادية لزمننا المعاصر» للمؤرخ الاقتصادي المعروف كارل بولانيي (ترجمة محمد فاضل طباخ).
يحلل بولانيي التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي جلبها «التحول الكبير» بعد الثورة الصناعية، ولا يكتفي بشرح نواقص السوق المنظمة ذاتياً، بل يتعداه إلى إدراج النتائج الاجتماعية الأليمة الممكنة لرأسمالية السوق الجامحة.
في تقديمه للكتاب، يعتبر المفكر الأميركي فريد بلوك أن نقطة الانطلاق المنطقية في شرح فكر بولانيي هي مفهوم الأخير عن التطويق. ويبدأ بلوك بتأكيده أن الفكر الاقتصادي الحديث بمقوماته التقليدية كافة يستند إلى مفهوم بولانيي للاقتصاد كنظام متداخل للأسواق التي تلائم آلياً بين العرض والطلب من خلال ألية السعر. وحتى عندما أقر الاقتصاديون بأن نظام السوق يحتاج أحياناً إلى دعم من الحكومة للتغلب على إفلاس السوق، ظلوا يعتمدون على هذا المفهوم للاقتصاد كنظام يحقق التوازن بين الأسواق المتكاملة.
وبحسب بلوك يهدف بولانيي إلى إظهار مدى اختلاف هذا المفهوم عبر تاريخ البشرية المدون، مؤكداً أن اقتصادنا قبل القرن التاسع عشر كان مغلفاً ومطوقاً ضمن المجتمع.
ويشير مصطلح «الانغمار» إلى أن الاقتصاد ليس مستقلاً بذاته، كما يجب أن يكون بحسب النطرية الاقتصادية، بل هو في الحقيقة تابعاً للسياسة والدين والعلاقات الاجتماعية. فاستخدام بولانيي له يعني أكثر مما تعنيه الفكرة المألوفة اليوم بأن صفقات السوق تعتمد على الثقة والتفاهم المتبادل، وتنفيذ العقود بقوة القانون، فالمفكر يستخدم المفهوم ليظهر مدى الانشقاق الجذري الذي قام به الاقتصاديون الكلاسيكيون عن المفكرين السابقين، فعوضاً عن النمط التاريخي المعتاد في إخضاع الاقتصاد للمجتمع، تطلّب نظامهم القائم على الأسواق ذوات التنظيم الذاتي إخضاع المجتمع لمنطق السوق.
الكساد الكبير
ينتظم كتاب «التحوّل الكبير» في ثلاثة أجزاء، يركّز الأول والثالث منها على ظروف آنية مباشرة أدت إلى الحرب العالمية الأولى، الكساد الكبير، ظهور الفاشية في أوروبا (باستثناء انكلترا)، الميثاق الجديد في الولايات المتحدة، وأول مشروع خمس سنوات للتنمية في الاتحاد السوفياتي. وفي هذين الجزئين، يكشف بولانيي عن لغز: لماذا انهارت فجأة فترة طويلة من السلام والرخاء النسبيين في أوروبا، امتدت من 1815 إلى 1914، وتحوّلت إلى حرب عالمية، وأعقبها انهيار اقتصادي؟
يقدم الجزء الثاني حل بولانيي للغز، فبالعودة إلى الثورة الصناعية في انكلترا، في أوائل القرن التاسع عشر، يبين المؤلف كيف تجاوب المفكرون الإنكليز مع التمزقات في مطلع النهضة الصناعية، بتطويرهم نظرية ليبرالية السوق، بإيمانها الصميمي بأن المجتمع يجب أن يخضع للأسواق ذات التنظيم الذاتي. ونتيجة لدور انكلترا القيادي «باعتبارها ورشة اختبار العالم»، أصبحت الآراء مبادئ الاقتصاد العالمي.
يتتبع بولانيي انهيار السلام الذي أدى إلى الحرب العالمية الأولى ويبين أن انهيار النظام الاقتصادي الذي أدى إلى الكساد الكبير هو النتيجة المباشرة لمحاولة تنظيم الاقتصاد العالمي على أساس ليبرالية السوق، وأن التحول الكبير الثاني، أي ظهور الفاشية، جاء نتيجة نشوء ليبرالية السوق.
كذلك يتضمن كتاب «التحول الكبير» أحداثاً تاريخية مهمة منذ القرن الخامس عشر إلى الحرب العالمية الثانية، ويقدم إسهامات في مواضيع مختلفة مثل دور تبادل الامتيازات التجارية بين بلدين، إعادة التوزيع في المجتمعات التجارية بين بلدين، إعادة التوزيع في المجتمعات السابقة والحديثة، ومخاطر اعتبار الطبيعة سلعة.
يميّز بولانيي بين نوعين من السلع، حقيقية وزائفة. وبالنسبة إليه، السلعة هي الشيء الذي أُنتج لبيعه في السوق. وبحسب التعريف تعتبر الأرض والعمل والمال سلعاً زائفة لأنها في الأصل لم تنتج لبيعها في السوق، فالعمل هو بكل بساطة نشاط يقوم به بشر، والأرض هي الطبيعة مقسمة، وعرض المال في المجتمعات الحديثة هو بالضرورة ما ترسمه سياسات الحكومات.
ويعتبر الاقتصاد الحديث أن هذه السلع الزائفة تتحرك بالطريقة نفسها كالسلع الحقيقية، لكن بولانيي يصر على أن هذه الخدعة لها عواقب مميتة. وثمة مستويان لمفهوم بولانيي هذا، مستوى أخلاقي يوضح أن معاملة الطبيعة والبشر على أنهما أشياء يتقرر سعرها من السوق خطأ فادح. ومثل هذا المفهوم ينتهك مبادئ سادت في المجتمعات لقرون خلت: فالطبيعة وحياة الإنسان تتمتعان بأبعاد قدسية. ومن المستحيل المواءمة بين هذه الأبعاد وبين إخضاع عنصري العمل والطبيعة للسوق.
أما المستوى الثاني فيتركز حول دور الدولة في الاقتصاد، ومع الافتراض أن الاقتصاد ينظم نفسه بنفسه، فإن الدولة يجب أن تؤدي دوراً مستمراً في ضبط عرض المال والقروض لتتجنب مخاطر التضخم والانكماش. كذلك على الدولة تقديم العون في فترات البطالة، وتثقيف عمال المستقبل وتدريبهم، والتحكم بتدفق المهاجرين.
أما في ما يتعلق بالأرض فعلى الحكومات الحفاظ باستمرار على إنتاج الغذاء بمختلف الوسائل التي تحمي المزارعين من الضغوط الناجمة عن تقلب المواسم الزراعية وبالتالي الأسعار.
سلع زائفة
تبين السلع الزائفة، بحسب بولانيي، تعذّر إخراج الاقتصاد من طوق المجتمع. إذ تتطلب دوائر السوق الحقيقية من الدولة أداء دور فاعل في إدارة الأسواق، والدور يتطلب اتخاذ قرارات سياسية، فلا يمكن اختصاره إلى دور فني أو إداري. وحينما تتجه سياسات الحكومات إلى رفع طوق المجتمع بالاعتماد على السوق ذات التنظيم الذاتي، يضطر الناس إلى تحمّل أكلاف أعلى. ويتعرض العمال وعائلاتهم إلى البطالة، والمزارعون إلى المنافسة الأشد بالسماح بالاستيراد، وتضطر الفئتان إلى العيش من دون أي حق بطلب المساعدة. وهذا ما يملي على الدولة بذل الجهود للتأكد من أن الفئتين ستتحملان الأكلاف الزائدة من دون القيام بحركات سياسية تؤدي إلى الفوضى.
ويصر بولانيي على رأيه بمذهب «دعه يعمل فقد خطط له، أما التخطيط فلا». ويهاجم علناً ليبراليي السوق الذين أنحوا باللائمة على «مؤامرة جماعية» لإقامتها حواجز حماية ضد نشاط الأسواق العالمية. ويقول في المقابل، إن إقامة هذه الحواجز كانت أمراً عفوياً واستجابة غير مقصودة، من فئات المجتمع ضد الضغوط غير الممكنة لنظام السوق ذات التنظيم الذاتي. وكان على الإجراءات المضادة الواقية أن تحدث لتتجنب كارثة الاقتصاد الذي أخرج من طوق المجتمع. ويقترح بولانيي بأن التحرك باتجاه اقتصاد «دعه يعمل» يحتاج إلى إجراء مضاد لإيجاد التوازن. وعلى رغم أن عواطف بولانيي هي عموماً مع إجراءات الحماية المضادة، إلا أنه يدرك أنها قد تؤدي إلى مأزق اقتصادي سياسي خطير. ويقر تحليله لظهور الفاشية في أوروبا بأنه حين لا يستطيع أي من الحركتين أن يفرض حلاً للأزمة، تتكرر التوترات إلى أن تبلغ الفاشية من القوة ما تستطيع به الاستيلاء على السلطة وتقطع الطريق على العمل الحر والديمقراطية.
وفيما يصر بولانيي على أن رأسمالية السوق الحرة ليست خياراً واقعياً، بل عبارة عن رؤيا طوباوية، يعرّف الاشتراكية على أنها «الاتجاه المتأصّل في الحضارة الصناعية بتصعيد السوق ذات التنظيم الذاتي بإخضاعها بشكل متعمد ومقصود إلى المجتمع الديمقراطي». ويقترح بولانيي ضرورة وجود إمكانات مختلفة في أي لحظة تاريخية، ومن المؤكد أن بعض هذه الصيغ سيكون أكثر فاعلية في قدرته على التوسع في الإنتاج وتشجيع الابتكار، وبعضها سيكون أكثر «اشتراكية» في إخضاع السوق للاتجاه الديمقراطي. ويلمح بولانيي إلى أن البدائل الفاعلة والديمقراطية توافرت في القرنين التاسع عشر والعشرين.
ينهي بولانيي كتابه بمناقشة الحرية في مجتمع معقد، ولا يتكلم عن الحريات التقليدية، كحرية الكلام، وحرية الصحافة، وحرية التجمع، وحرية العقيدة، بل عن حرية التحرر من الخوف والجوع. فقد تحرم الأنظمة شخصاً من حريته وتعزز حرية شخص آخر، فحرية إدخال رأس المال إلى البلد وإخراجه يمارسها البعض وتكون كلفتها على الآخرين هائلة. أما خرافة الاقتصاد القديم «دعوه يعمل»، فلا تمثل توازناً لهذه الحريات.