تحل الذكرى التاسعة عشرة لإعلان الوحدة اليمنية وقيام الجمهورية اليمنية في الـ 22 مايو 1990 وسط تباين بشأن تقييم المخاطر التي تعترض هذا المنجز، وجهود حثيثة تسعى إلى تدارك العودة إلى ما قبل الوحدة، ومطالبات بالقيام بإصلاحات عملية تحول دون التراجع عن هذا التحول التاريخي الهام لليمن المعاصر.ففي الوقت الذي كان الرئيس علي عبدالله صالح يستعرض تشكيلات من قوات الجيش اليمني بمناسبة الذكرى التاسعة عشرة لإعلان الوحدة كان محتجون من المنتمين لما يسمى "الحراك الجنوبي" يرددون شعارات مطالبة بالإنفصال ثم تطور الاحتجاج في وقت لاحق إلى صدامات أسفرت عن سقوط 3 قتلى و25 جريحا طبقا لما نُقل عن شهود عيان.
وفي وقت لاحق من الخميس 20 مايو حين كان الرئيس صالح يتلو خطابه الوطني بهذه المناسبة كان مؤتمر التشاور الوطني الذي يضم حوالي 1200 من الفعاليات السياسية، والحقوقية، والمدنية، وشخصيات اجتماعية وثقافية وأكاديمية قد أنهى أعماله بتشكيل لجنة أنيط بها التحضير والإعداد لعقد "مؤتمر وطني عام" يهيئ للخروج من الأزمة التي تعانيها البلاد.
وخلال المؤتمر الوطني للتشاور برزت عدد من المؤشرات الدالة على أن اليمن يقف في مفترق طرق، إذ دعا رئيس لجنة التشاور الوطني حميد الأحمر إلى "الإحتفال بالوحدة اليمنية بطريقة مختلفة يشارك فيها كل الشركاء في صنع هذا الحدث"، موضحا أن اليمن "يمر بمرحلة خطيرة من الانقسامية وأنه لابد من استعادة وحدة 22 مايو القائمة على المواطنة المتساوية والشراكة في السلطة والثروة".
ويشاطر السياسي الذي أخذ نجمه يلمع بعد رحيل والده الشيخ عبدالله الأحمر عدد من السياسيين المخضرمين الذين شاركوا في المؤتمر بعضهم كانوا ومازالوا حلفاء للرئيس صالح، إلا أنهم لم يترددوا في إطلاق تحذيرات مماثلة ودعوات لتدارك الأمور ومنهم مستشاره وزير الخارجية الأسبق محمد سالم باسندوة الذي ذهب إلى حد القول بأن "اليمن تشهد أسوأ وأخطر مراحلها على الإطلاق وأن الأزمات تتكالب عليها من كل جهة".
الوحدة راسخة.. والتصدي للشغبومع أن خطاب الرئيس صالح كان ينتظر منه أن يحمل في خضم تزايد الضغوط السياسية والاجتماعية المتزايدة رؤى جديدة لتجاوز المحنة التي تمر بها البلاد إلا انه باستثناء تجديده الدعوة للحوار عاد ليؤكد مجددا على أن الوحدة "راسخة رسوخ الجبال وهي وجدت لتبقى؛ لأنها محمية بإرادة الله وكل الشرفاء المخلصين من أبناء الوطن.. وبدعم من أشقائه وأصدقائه".
واعتبر صالح أن ما يجري في بعض المديريات جنوب البلاد ليس سوى شغب لأشخاص خارجين عن القانون والدستور، مما عد تأكيدا صريحا على التصدي لكل الأعمال التي تسعى للمساس بالوحدة الوطنية واستمرارا للإجراءات التي بدأت تطبقها السلطات ضد ما تعتبره "نشر لثقافة الكراهية وإساءة للوحدة الوطنية".
وهي الإجراءات التي تتباين المواقف بشأن فعاليتها، والتي كانت قد بوشرت بحظر السلطات صدور ست صحف متهمة بتغذية الانقسامية وتغذية الكراهية في البلاد، وإنشاء محكمة خاصة بقضايا الصحافة والنشر، وإحالة عدد من تلك الصحف والصحفيين إلى تلك المحكمة، وتكثيف ملاحقة من تسميهم بمثيري الشغب والعنف من المشاركين في الوقفات الاحتجاجية في المناطق الجنوبية الشرقية.
« الإنفصال ليس حلا للمشاكل القائمة ولن يؤدي إلى تحقيق الرفاه والإستقرار للمحافظات الجنوبية »
خالد الرماح، باحث يمني
تراكمات داخلية.. والإنفصال ليس حلاوفي تعليقه على تلك الإجراءات قال سامي غالب، رئيس تحرير صحيفة "النداء"، إحدى الصحف الموقوفة لسويس انفو: "إن السلطة بعد أن فشلت في معالجة القضايا المطلبية في الجنوب سياسيا لجأت إلى المعالجات الأمنية ومنها إيقاف الصحف ومطاردة وملاحقة المحتجين"، معتبرا أن مثل هذه الإجراءات لن تزيد الأمور إلا تعقيدا لأنها - على حد تعبيره - "تنسف واحدة من أهم أركان دولة الوحدة"، ويعني بها حرية التعبير والرأي مؤكدا أن "الصحف الموقوفة هي صحف مستقلة وأنها لم تعمل إلا على نقل أحداث قائمة لمحتجين يطالبون بالشراكة ويرفضون الإقصاء".
وعلى الرغم من أن هناك كثيرين ممن يشاطر رئيس تحرير "النداء" تعاطفه مع المطالب الحقوقية ومطالب الشراكة التي يرفعها المحتجون في الجنوب جراء ممارسات السلطات في المناطق الجنوبية، إلا أن الدعوات الانفصالية تستفز العديد منهم. وفي هذا الإطار قال الأستاذ خالد الرماح، الباحث بمركز سبأ للدراسات الإستراتجية لسويس انفو: "ما يجري في بعض المحافظات الجنوبية وعودة المطالب الشطرية والإنفصالية من بعض القوى، ناتج تراكمات داخلية لا يمكن قصرها على المحافظات الجنوبية فقط، بل تعُمّ اليمن بأكمله من تدني المستوى المعيشي للسكان وارتفاع الأسعار مع استشراء الفساد، وغياب المؤسسية والإرتكان إلى العوامل الشخصية".
ويضيف الرماح أسبابا أخرى وهي في رأيه: قضايا نهب الأراضي وحقوق المتقاعدين، علاوة على ما يسميه إتباع السلطات سياسة الإرضاء ولاستمالة، كشراء القادة، والوجهاء، ومراكز النفوذ بالمال والمناصب والسيارات، وتجاهل مشاكل المواطن العادي والمجتمعات المحلية، والشباب الساخط العاطل عن العمل معتبرا أن ذلك "هو لب المشكلة" لأن تلك السياسة على حد قوله "من ناحية شجعت مزيدا من القوى على التمرد وإعلان العصيان كوسيلة للحصول على منافع وامتيازات كالتي حصل عليها الآخرون، ومن ناحية أخرى لم تقدر على الوقوف في مواجهة المشاعر المجتمعية الساخطة".
ويعتقد الرماح أن الخروج من المأزق الحالي ليس في الدعوة للإنفصال بل بالضغط من أجل الإصلاحات خاصة لجهة التعامل مع الأحزاب السياسية وهيئات المجتمع المدني التي أدى إضعافها طيلة الفترة الماضية إلى ظهور قوى جديد غير رشيدة تجاوزت الأحزاب، مستندة إلى المرجعيات التقليدية والعصبيات المناطقية والفئوية.
ويخلص الباحث بمركز سبأ للدراسات الإستراتجية إلى الجزم بأن "الإنفصال ليس حلا للمشاكل القائمة ولن يؤدي إلى تحقيق الرفاه والإستقرار للمحافظات الجنوبية كما يزعم أصحاب الدعوات الانفصالية ذلك أن إعادة بناء سلطة سياسية جديدة في الجنوب منفصلة عن الشمال ستكون على سيل من الدماء والجثث نتيجة تعدد وتباين القوى الراغبة في السيطرة وتولي زمام الأمور هناك".
"مفترق طرق"ومع تتالي وتواتر الأحداث المرتبطة بهذا القضية لا يُخفي الكثير من المتابعين والمحللين خشيتهم من فلتان الأمور من أيدي السياسيين الذين دأبوا على اللعب سياسيا على هذه القضية واستثمارها والاستخفاف بها وتجاهلها فيما تجلياتها الواقعية تكشف يوما بعد يوم أن الأمور في طريقها إلى تخرج من حلبة اللاعبين السياسيين في السلطة والمعارضة على حد سواء. ويلحظ المتابع أنه في الوقت الذي تتجاهل فيه السلطات حدود تأثير هذه التحركات أو تستهين بها، فإن المعارضة جعلت من "الحراك الجنوبي"، حسبما يبدو، مدخلا للتصحيح ولإصلاحات شاملة.
في المقابل، تظل الخشية قائمة من أن تفلت الأمور وتخرج من حلبة اللعب السياسي ومن أيدي الفرقاء السياسيين بل وأن تتخطى صراعات النخب السياسية لتتحول إلى صراع اجتماعي، وثقافي، واقتصادي بدأ يبرز في أكثر من ملمح متخذا إما شكل عنف مادي أو لفظي ورمزي ضد كل ما يرمز أو يدل على الوحدة اليمنية أو ضد سكان الشمال الذي يطلق عليه تارة "الاستعمار الشمالي" وأخرى ينعت بأسوأ النعوت والأوصاف المقذعة التي ولّدت ردود أفعال انتقامية ضد الوحدة وضد الانتماء للمنطقة أو الجهة.
فالملاحظ أن الشارع اليمني تجتاحه حالة غير مسبوقة من التوتر بسبب الإستفزازات المتبادلة أخذت معها التحذيرات متصاعدة تتعالى خاصة مع اجتياح الشارع اليمني حمى خلافات وصراعات ذات طابع جهوي ومناطقي يتخذ رموزا ودلالات مختلفة. وفي الوقت الذي صعّد المطالبون بالعودة إلى ما قبل 22 مايو 90 من نقمتهم على الوحدة، ظهر آخرون في حالة استنفار قصوى إما بحشد المدافعين عن الوحدة عبر ما يطلق عليه "لجان الدفاع عن الوحدة"، أو عبر استحضار الرموز والدلالات المضادة، الأمر الذي يعيد للأذهان حرب صيف 1994 السبب الرئيسي في إنتاج الحراك الجنوبي.
أمام هذه الصورة التي بدأت معالمها تتشكل مؤخرا حاملة معها الكثير من دواعي القلق والمخاوف الشعبية (خاصة وأن عملية فرز بين دعاة الانفصال وأنصار الوحدة وبين شمالي وجنوبي بدأت تعبر عن نفسها بمظاهر مختلفة)، ستبقى الأنظار مترقبة لما ستنتهي إليه لجنة الإعداد للمؤتمر الوطني العام المنبثقة عي التشاور الوطني وما ستخرج به من رؤى وتصورات واقعية للخروج من المأزق.
لكن ذلك يتوقف على النظر إلى المسألة من زاوية الآثار البعيدة المدى وليس من زاوية الحسابات السياسية الطارئة والظرفية التي لم تؤد إلا إلى ترحيل المشاكل. ولذلك تبدو اليمن اليوم أمام مفترق طرق يصعب تحديد أي وجهة ستختارها مالم تتبلور وتتحلل المواقف التي أوصلت الأمور إلى هذه المفترق.
عبدالكريم سلام - صنعاء - swissinfo.ch