مصطفى حيران
Thursday, June 04, 2009
كم هي مذهلة حقا، قدرتنا نحن المغاربة، على إلغاء الحياة والزمن، تسأل المرء من بيننا مثلا: "كي داير لاباس؟" فيجيبك: "ها حنا كانعديو".. وإذا تأملنا أساليب حياتنا في ضوء هذا الجواب التلقائي، فسنقف على استنتاجات بالغة الدلالة، لنُلق مثلا نظرة متفحصة، على بعض تفاصيل الحياة اليومية لأحد من "يا أيها الناس"، يقضي سحابات أيامه المتشابهة، في عمل يأكله الروتين، وتنخره المنغِّصات، فيتآلف المعني، مع واقع يتجاوزه، حتى تُعدم معه كل الحِيل، وحينها يتحول "بطلنا" إلى مُنتج "فعَّال" لنفس السلبيات، التي كرهها في البداية، إذ "يستوعبها" وتستوعبته، فيشرع في تصريفها حوله، ما استطاع إلى ذلك سبيلا.. هكذا يتحول مثلا، الشخص الذي استعصى عليه، في البداية، تَقبُّل الواقع الرث، لأنه لم يجد عملا كفاف، إلى كاره للعمل، حينما "يبتسم" له الحظ، فيجد شغلا ما، عنذئذ يبدأ "يُعدِّي" حتى يجد مثلا فرصة للهجرة إلى خارج البلاد، وقد يحدث أن تطول مدة الحلم، لتطال كل سنوات عمره، يقضيها وكأنها فترة انتقالية، وليس مُهمّا بالنسبة إليه، إذا كان أداءه لعمله "عابرا" وعلاقاته عابرة، وأحاسيسه وأفكاره من نفس الطينة، المهم أنه "ساخط" على الحياة والأحياء، لأنه ليس "هنا" سوى ب "الصدفة" السيئة التي تلازمه، فيألف هذا التواجد الافتراضي، حتى يصبح هو الأساس.
لننظر إلى تفاصيل أخرى، من نفس العيار، لدى شخص آخر قد يستعصي عليه في البداية، منح الرشوة، في شتى مشاوير الخدمات الإدارية وغيرها، ليتحول إلى امرئ لا يستطيع تصور إمكانية العيش، في مُحيطه الحياتي، بدون رشوة، لدرجة أنك لو سألته: لدي مشكلة مع فلان، في الإدارة الفُلانية، فهو يتماطل في منحي الوثيقة التي أحتاجها.. فماذا أفعل؟ حينها سيرمقك الشخص "المُجرب" بنظرة ذات مغزى ساخر، ثم يقول لك باستخفاف: "ادهن السير يسير أصاحبي".
نفس سيناريو هذه "الحتمية" تجده يتكرر في مُختلف شؤون الحياة اليومية، حتى تحول إلى "ركيزة" أساسية لا يُمكن تصور الحياة بدونها، والغريب، العجيب، أنك تسمع من نفس الأشخاص الراشين المُرتشين، سبَّا مُقذعا، في حق هذا الملمح السلبي من حياتنا، حيث لا يتورعون عن القول: "الله ينعل بوها بلاد".. مما يمنح مُؤشرات مُفارقة، عن ذهنية اجتماعية، تقف حيالها نظريات علم الاجتماع، عاجزة.. أرجو أن أجد أحدا من أصحاب هذا التخصص، ضمن العلوم الإنسانية، يشرح لي، كيف يتسنى للمرء، أن يأتي الشيء ويكرهه في نفس الوقت؟ إنه سؤال مُعلَّق.
آفة "التآلف" مع سلبيات كثيرة في حياتنا، لا تقتصر على الفئات الموصوفة بأنها دُنيا، في سُلم الامتلاك المادي، والتصنيف الاجتماعي، بل تطال حتى الأفراد المحسوبين، على شرائح النُّخب، من سياسيين ومثقفين.. إلخ، يكفي أن نذكر مثلا، أن أغلب "المُتحزبين" هم عبارة عن "مناضلين" مستعدين في أول "فرصة" سانحة، للنط من حزب إلى آخر، كما تفعل الفئران المذعورة، في السفن، حينما تتسلل إليها أولى علامات البَلَلْ، مما جعل مشهدنا الحزبي تسري عليه المقولة الشعبية "تبدال المنازل راحة". وقِس على ذلك في مُختلف المجالات، ومنها مثلا، أن أستاذا جامعيا (يا حسرة) لا يوجد في موقعه الوظيفي، سوى لأنه لم يجد فرصة أفضل، مثل العمل مُخبِرا، لدى جهاز أمني، بأجر مُغر، وصداع رأس أقل، بين رهط طلبة، يهمهم اللغو والثرثرة، أكثر من إملاءات الأستاذ المُملة.
المرأة بدورها "تُعدِّْي" حياتها مع زوج "ساخط" لأنه "ضحية" واقع يتجاوزه بقهره، ولا يملك له ردا، فيُفرغ في ضعفها عُقده، ولو كانت تملك "فرصة" لهجرته، وبما أن هناك فرقا شاسعا، بين الحلم والواقع، فإن حياتها تتحول إلى مرحلة "انتقالية" أبدية.
يُمكن أن نقول من منظور التحليل السياسي، بناء على مُعطيات بنية السلطة في المغرب، أن ذهنية الانتظارية، لصيقة بشكل ومضمون النظام، بمعنى أن وجود شخص واحد، هو الملك، يتوفر على سلطات واسعة، تنفيذية وتشريعية، يجعل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مجرد حلقة مُفرغة، يدور وسطها ملايين الناس، دون أن يستطيعوا تلمس منفذ خارجها، غير أن أصحاب التحليل الاجتماعي، المشفوع بمعطيات التاريخ، سيقولون: مهلا، إن المجتمع هو الذي يصنع "قدره" وذلك عبر تراكُمات يسند بعضها بعضا، حتى يحصل الإشباع، فتحدث الطفرة في كل المجالات.
مهما يكن من أمر، فإن كاتب هذه الكلمات، يعتقد أن سبيل الخلاص، لا يتوقف على شخص بعينه، مهما تعاظم دور تدخله في "الشادة والفادة" ذلك أنه لو وجد قوة دفع مجتمعية مُناسبة، لألفى نفسه يطلب "السلاك" بين قوم لا يرضون، بغير سبيل الفلاح، في شتى شؤون الحياة، والحالة أن الحاكمين والمحكومين، في هذا البلد يبدون "سمنا على عسل" والدليل أن أغلب الناس "تعايشوا" مع كل سلبيات حياتهم، حتى أصبحوا لا يرضون عنها بديلا.
على سبيل الختم، ثمة قصة واقعية تستحق أن تُروى: كان الثائر الشهير "تشي غيفارا" ذات يوم، يقوم بإحدى جولاته التعبوية، في إحدى قرى "غواتيمالا" والتقى بمحض صدفة، بأحد الرعاة في هيئة رثة، أثرت فيه، وهو نصير البروليتاريا، حيثما كانت على وجه الأرض، فربت على كتفه قائلا: "لن يستمر هذا الحال البئيس الذي تحيا فيه يا صاح" فكان أن حدجه الراعي الغواتيمالي بنظرة تعجب ودهشة، ثم أجابه: عن أي بؤس تتحدث يا هذا؟".