هافانا(كوبا) - سليفيا أيوسو - عندما تشرق الشمس في يوم صحو من أيام العاصمة الكوبية لا يحتاج الأمر إلى المزيد من الخيال لندرك لماذا اختار كاتب كبير بحجم الأديب الأمريكي هيمنجواي ضيعة فينكا بيخييا ملاذا له ليقضي بها 21 عاما كانت الأغزر إنتاجا في مراحل مشواره الأدبي.
وهناك تتسرب أشعة الشمس الدافئة عبر النوافذ المتعددة التي يتميز بها المنزل الفسيح المطل على خليج هافانا، لتسمح رحابته بتوفير جو منعش قلما يتوفر في منطقة الكاريبي (التي تتميز بارتفاع درجات الرطوبة طوال العام).
جدير بالذكر أن الكاتب والأديب الأمريكي الشهير تلقى نبأ حصوله على جائزة نوبل للآداب بينما كان مستغرقا في إحدى جلساته الطويلة ليحتسي شراب الرون في غرفة المعيشة الفسيحة بالمنزل وهو الطقس الذي اعتاد هيمنجواي على ممارسته عقب يوم شاق من الكتابة والتأليف واقفا على قدميه.
ومن المعروف أن هيمنجواي اعتاد على أن يترك أقلاما وأوراقا وماكينات كتابة في كافة أرجاء المنزل العتيق الذي كان يتجول في أركانه بحثا عن الإلهام وأينما فاجأته نوبة إبداع وجد أمامه قلما وورقا يتناوله على عجل ويفرغ شحنته على الورق بشكل متدفق.
وقد ذكر الكاتب نفسه في إحدى المرات "في هذا المنزل يستطيع المرء ان يكتم رنين الهاتف ببضعة أوراق ليواصل العمل باستغراق يساعده على ذلك جو الصباح المنعش الذي قلما يتوفر في أي مكان أخر في العالم ".
وبعد نصف قرن على رحيله لم يتغير شيء تقريبا في فينكا بيخييا مقر إقامة كاتب رواية "لمن تدق الأجراس" حتى انك تكاد تتخيله يطل عليك من أحد الأبواب أو يصيح صيحته المشهورة مطالبا بالمزيد من الشراب وفقا لما صرحت به مديرة متحف منزل هيمنجواي في هافانا السيدة آدا روسا الفونسو والتي أكدت أن روح هيمنجواي تحلق في المكان الذي شهد العديد من اللحظات الخالدة لكثير من صديقاته من نجمات السينما العالمية آنذاك ومن بينهم افا جادنر.
ومنذ أن أهدت زوجته الرابعة ماري وولش المنزل للحكومة الكوبية، احترمت هافانا رغبتها في الحفاظ عليه كما هو أو بصورته الأولى مما مثل تحديا كبيرا أمام علم المتاحف والتصميم المتحفي لصيانة المنزل من التدهور وفقا لما صرحت به السيدة آدا روسا الفونسو مديرة المتحف.
وتقول الفونسو "لا يوجد شيء معروض داخل فاترينات.. تركنا كل شيء في مكانه وجميعها هي نفس القطع الأصلية فتجد نفس جهاز الراديو القديم منذ أيام هيمنجواي ولا يزال يعمل حتى الآن بالطريقة العتيقة نفسها بالإضافة إلى جهاز الجرامفون القديم والذي يمكن من خلاله سماع اسطوانات الموسيقيين الكلاسيكيين نفسها التي كان يستمع إليها هيمنجواي في حياته".
وتضيف "كما تجد كتبه مبعثرة بالطريقة العشوائية نفسها وبدون أي تصنيف يمكن الاستدلال منه على شيء، والعديد من جوائز الصيد التي حصل عليها وملابسه بما فيها زيه العسكري في الحرب العالمية الثانية، والعديد من مقتنياته القيمة والأخرى عديمة القيمة من تفاصيل الحياة اليومية".
كل هذ ا يمكن متابعته مباشرة من خلال نوافذ منزله حيث تحتشد وفود السائحين كل يوم لمشاهدة الملاذ الكاريبي للكاتب.
أما الكنز الحقيقي والذي تتضمه حنايا أركان هذا المنزل فيتمثل في الآلاف من الوثائق التي أعلن المتحف ظهور المجلد الأول منها في كانون أول/ديسمبر الماضي وتحتوي على أكثر من ثلاثة آلاف صفحة من مراسلات ومذكرات وفواتير والتي تشكل في مجملها وقائع تمنحنا فرصة لمعرفة أكثر عمقا حول حياة هيمنجواي .. أعماله وأفكاره وفلسفته من خلال مراسلاته مع العديد من الأدباء والناشرين والفنانين.
ويبرز من بينها مراسلاته مع كل من جون دوس باسوس, وجيرترود ستين كما يحتوي المجلد على رسائل المعجبين والقراء الذين يطلبون نسخا من أعماله الأدبية وأحيانا رسائل من بعض الأطفال مناشدين إياه كتابة عمل مدرسي وبعض الرسائل من كبار الفنانين مثل انجريد برجمان و مارلين ديتريش.
ويرجع الفضل لإنجاز هذه المهمة من حفاظ وإعادة ترميم وترقيم هذه الوثائق إلى الاتفاقية الثنائية التي وقعت بين كوبا وخصمها التاريخي الولايات المتحدة الأمريكية.
مثل الجانب الأمريكي في الاتفاقية المجلس الأمريكي لبحوث العلوم الاجتماعية، أما الجانب الكوبي فناب عنه مجلس التراث الثقافي الوطني بكوبا وقد تم توقيع الاتفاقية بالأحرف الأولى لكل من الرئيس الكوبي فيدل كاسترو وعضو الكونجرس الديموقراطي ماك جفرن في تشرين ثان/نوفمبر من عام 2002 .
وتنص الاتفاقية على قيام الولايات المتحدة الأمريكية بتزويد كوبا بالمعدات والخبرات اللازمة وفي المقابل تحصل الولايات المتحدة على نسخة من الوثائق الخاصة بهيمنجواي يتم الاحتفاظ بها في مكتبة كيندي.
و صرح عضو الكونجرس الأمريكي، ماك جفرن، أن "قضية هيمنجواي تمثل جسرا للوصول إلى علاقة أكثر نضجا وعقلانية بين البلدين".
أما الفونسو، مديرة المتحف فاكتفت بالإيماء برأسها علامة الإيجاب، تصديقا على كلام البرلماني الأمريكي، معلقة دون إسهاب ودون تعليق آمال كبيرة "برغم الصعوبات والعقبات فقد نجحنا في إنجاز شوط كبير من عملية الترميم .. ونأمل في استمرار هذا التعاون الثنائي مع تولي إدارة باراك أوباما للسلطة في الولايات المتحدة".
وذكرت الفونسو أنه ما زال هناك العديد من الوثائق علاوة على بعض البطاقات البريدية التي لم يتم ترميمها بعد، مشيرة "لا يزال هناك حوالي ألف من الوثائق وكمية هائلة من الخرائط المذيلة بملاحظات هيمنجواي حتى إنه يمكن تأليف كتاب حول أسفاره ورحلاته من خلال توثيق هذه الخرائط، كما يوجد حوالي 2000 كتاب ومجلة تحتوي على هوامش وملاحظات مؤلف رواية "العجوز والبحر".
وأخيرا وليس أخرا فإنه لا يمكن إنكار أن فينكا فيخييا كانت الملاذ الحقيقي لهيمنجواي مهما حاول البعض إنكار ذلك، ففي هذا المكان قضى الأديب الكبير 21 عاما من حياته كانت الأغزر إنتاجا أنهى خلالها روايات: "لمن تدق الأجراس" و"على الجانب الآخر من النهر وبين الأشجار" و"جنة عدن" و"عند مطلع الفجر" و" جزر الخليج"، بخلاف كمية هائلة من المقالات.
إذا حاولت كل من كوبا والولايات المتحدة العثور على سبيل لتجاوز خلافات ترجع لأكثر من نصف قرن من الزمان، فعليهما الرجوع إلى أفكار وأدب هيمنجواي الذي أثبت من خلال عالمه الأدبي أن التفاهم ممكن، فيما تعتبر ألفونسو الكاتب الكبير تراثا ثقافيا مشتركا لكلا البلدين.