«دمشق تحتفل بموسيقا العالم» تظاهرة نظمتها دمشق عاصمة للثقافة العربية على مدى ثمانية أيام امتدت من 16 لغاية 23 /7 عاش خلالها جمهور الموسيقا أياماً نادرة مع فرق من مختلف القارات والاتجاهات الموسيقية لها مكانتها في الموسيقا العالمية والمحلية تزور دمشق للمرة الأولى. وللمرة الأولى يحظى جمهور المهتمين بذلك الزخم من التنوع، كانت قلعة دمشق حاضنتها ومسرحها: فرقة «تيناريون»، فرقة «جوني كليغ»، فرقة «بينك مارتيني»، فرقة «أوليفر فريدلي وأيريس رينيرت» فرقة «باندو»، «ظافر يوسف»، «فوديل»، «انجيليك كيدجو»، «لينا شماميان». ومع أن الموسيقا كانت المظهر الأول من مظاهر كسر الحدود والانعتاق من الإنتماء إلى الجنسية أو البلد إلا أن ما قدمته فرقة «تيناريون» كان الأغنية الشعبية التراثية التي تعكس الثقافة الموسيقية الخاصة بشعب «الطوارق» والتي تعود بجذورها إلى البلوز، ترافقها الأزياء الخاصة بذلك الشعب الصحراوي، الموزع على مساحة عدة دول منها مالي التي أتت باسمها الفرقة. كذلك الموسيقا الشعبية الجزائرية التي وزعت على أساس الجاز التي قدمها «فوديل»، جنبا إلى جنب مع أنواع أخرى من الموسيقا تنوعت بين الروك والزولو والبوب والكلاسيكيات الأميريكية والموسيقا الإلكترونية، وما يمكن من الابتكارات في طرق العزف ووسائطها التي كان منها البراميل التي قدمتها فرقة «باندو» الألمانية. وبغض النظر عن تفاعلنا أو انسجامنا مع بعض تلك الأنواع أو حبنا لتلك الموسيقا إلا أن ما قدمه لنا الشاب التونسي «ظافر يوسف» عازف العود العالمي كان الأكثر أهمية، وهو المعروف في كل أوروبا، وتنبع هذه الأهمية من خصوصية المشروع البحثي الذي يشتغل عليه، وهو موسيقا خاصة جامعة لكل الثقافات أساسها الصوفية الشرقية العربية التي تتداخل مع الموسيقا الكهربائية والميتاليك وموسيقا الجاز، الذي اكتشف «يوسف» أنه يذهب إليها دون أن يعلم منذ أن وعى الموسيقا وعشقها، رغم تعلمه وارتياده صغيراً دار الكتّاب في تونس وغنائه الأغاني الإسلامية وانغماسه في «الصوفية الشرقية»، لتكون هذه الصوفية لاحقا مرتكزا في مقطوعاته ومثار جدل في موسيقاه عندما كانت أساسا لتلك الغرابة الجمالية التي تذهب حد التجلي الروحاني، وهي تتداخل مع ضدها ونقيضها الحاد «موسيقا الميتاليك» و«الديجيتال»، هي نفس التضاد بين القديم والحديث وبين ثقافتين «الشرق والغرب»، فتبني عالما آخر من الرؤية الجمالية الحية المعاصرة، حاملها الفكري «موسيقا» جديدة تعبر عن امكانية التواصل والتشارك مع المتنافرات، وبلحظة ستلتقي روح الآذان والدعاء والمناجاة الصوفية المنعتقة من الأرضي، بالمعدن والكهرباء والديجيتال والمرتبط بالمادية الصرفة، ولكن لتنتصر الروح بداخل المتلقي حسبما عشناه في حفلته في قلعة دمشق. وفي ذروة صخب الإيقاعات التي كانت بطلة في عرضه، وعند آخر نغمة حادة ينتهي اليها الغيتار الكهربائي يدخل العود لعزف تيمة صوفية ستنقلك بشكل مفاجئ إلى عالم الروح المنعتق من خصوصية المقدس ويصبح الإله الكوني في داخل كل فرد ايا كان دينه، لنكون أمام «تكنيك» مبهر يصل بنا إلى السلام الداخلي والخلاص نتيجته الاسترخاء يبلغ تجلياته الحقيقية عندما يعلو صوت «ظافر يوسف» القادم من تلك المناطق العميقة والدفينة المسكونة بكل القدرة على إصدار كل تلك التلوينات الصوتية تصاعديا، عندما ينتهي إلى صرخة لا نهائية في وجه كل البشاعة الممكنة التي تعيشها البشرية، تعود بنا إلى أساسها الإنساني الروحي.
كل ذلك باستخدام أقصى لكل طاقات الاختراعات الحديثة من التقنية الإلكترونية والديجيتال، والموجود من موسيقا الرفض الغربية والآلة، جنبا إلى جنب مع الشرق الروحي، والإنسان المجبول بالطبيعة والحس الفطري بعودته إلى جذور العلاقة بين المادي والروحي ورحم الوجود، في مزج فني مذهل بين قساوة الغرب ودفء الشرق.
هي الحداثة والعمل على القيم التي نملك ورسالة إلى «العرب» أولاً بأننا نستطيع إيصال الكثير من الرسائل عبر مشاريع الإبداع وليس صعبا أن ننتزع اعتراف العالم بنا، كما فعل «يوسف» لندافع عن وجودنا كشعب يتكئ على حضارة ذات مخزون ثقافي وارث معرفي وفكري جليل عندما نعيد إنتاج ما لدينا ونحن نعترف بمنتج غيرنا، لتكون الموسيقا والفنون أدوات بالغة السلطة والقدرة على الوصول رغما عن المصالح والمواقف السياسية.