إحضار الغناء البربري إلى العصر الحديث

شتيفان فرانتسين من بون، ألمانيا – تنتسب الفنانة حورية عائشي إلى مجموعة عرقية بربرية هي "الشاوية" تقيم في سهول جبال الأوراس في سلسلة جبال الأطلس بشمال شرقي الجزائر

إحضار الغناء البربري إلى العصر الحديث 1538715-2054788

"لديّ ذكريات قوية من طفولتي" تؤكد حورية عايشي. "تميزت الثقافة التي نشأت فيها بالترابط الأسري، ومدونة صارمة من أحكام الشرف وتقليد صوتيّ غنائيّ لا نظير له إلا في هذه المنطقة المميزة".
وكما هو الحال مع قبائل الطوارق البربر فإن الموسيقى، أو الغناء بالأحرى، تعتبر مجالاً للنساء فقط في هذه المنطقة بالذات.
"تعيش الفتيات معاً مع النساء في ساحة خاصة بهن، حيث ينشأن بشكل طبيعي يتلاءم مع التقاليد. وفي ذلك المكان يمارسن التمثيل وتأليف القصائد والتطريز وصنع الأواني الخزفية والقيام بعروض يقلدن فيها الرجال بل وحتى يسخرن منهم. وبالطبع، يغنين بأسلوب طالما غنى به شعبنا، تمرره النساء من جيل إلى آخر".
تختلف أصوات غناء أسلوب الشاوية عن أي شيء آخر مما تقدمه ثقافة موسيقى البوب العالمية، حيث تخرج النغمات الصوتية حادة صاخبة أنفية، ويبدو الصوت مضغوطاً حاداً، ولكنه بالغ الروعة.
وهو أسلوب لا يمكن تعلّمه، حسب قول حورية عايشي، التي تصلها طلبات أحياناً لتعليم غناء الشاوية. ويقال أحياناً أنه لا يمكن إلا لمن سمعت الموسيقى وهي في رحم أمها أن تطور صوتاً كهذا.
ولكن أي نوع من الأغاني يستخدم هذه الخاصية الصوتية؟ رغم أن نساء الشاوية يهزأن من الرجال في أغانيهن إلا أنهن يعجبن بهم كذلك. يلعب الخيالة والفرسان دوراً بارزاً كحَمَلة لموروث شعب الجبال هؤلاء.
وتُهدى لهؤلاء الرجال أعداداً لا تحصى من الأغاني التي تتحدث عن الحب المشتعل، التي تنساب بمجازات مفعمة بالحيوية والجمال: تجري مقارنة الفارس بالزئبق، ويوصف النبي محمد (ص) بالفارس النبيل.
"سُحرِت كفتاة، مثل باقي الفتيات بهؤلاء الفرسان ومنظرهم المسيطر. كانوا يأتون على خيولهم، ملثمين يلبسون الملابس البيضاء. كانوا بالنسبة لي وقتها مخلوقات شبه حقيقية وشبه أسطورية. كانت تنتابني مشاعر قوية عارمة، وما زال هذا السحر بالخيالة والفرسان مصدر إلهام لحياتي الفنية اليوم".
ورغم نشأتها التقليدية القوية، خرجت عايشي من حياة المرأة البربرية التقليدية كما فعلت الكثيرات من جيلها في الجزائر الحديثة. وقد ذهبت إلى باريس في سبعينات القرن الماضي لدراسة علم النفس.
بقيت حتى مع منظورها الخارجي مخلصة لجذورها. بدأت بحوثاً في التقاليد الغنائية لجبال الأوراس في متحف موسيقى الرجال Musee des Hommes، وهو متحف تاريخ طبيعي في باريس حيث اكتشفت تسجيلات على اسطوانة شمعية. كذلك أجرت بحوثاً على تقاليد وطنها حيث زارت النساء وسجلت أغانيهن. قامت أيضاً برحلات قصيرة إلى مناطق جزائرية أخرى بهدف توثيق أناشيد "الذكر" الصوفية.
وبالنسبة لمشروعها الجديد فسوف تعود عايشي مرة أخرى إلى الفرسان النبلاء مبرزة شعر الغزل عبر مواضيع الفروسية والسيدة الرفيعة والحصان إلى معايير حديثة. وهي تحقق هذا المنظور مع فرقة L’hijaz Car الخماسية لمدينة ستراسبورغ.
"أردت منذ فترة بعيدة مجابهة تقاليد الأوراس بأصوات عصرية. عملت أحياناً مع عازفي موسيقى الجاز وكنت متأكدة من النجاح. وكنت محظوظة لأن غريغوري دارجنت، مدير الفرقة استطاع فهم عالمي العاطفي وذكرياتي، وهذا يعني أنه كان بإمكانه إيجاد توزيع لم يتخلى عن التقليد. إنه في الواقع طرح بين عالمين موسيقيين.
تعرض موسيقاها، والتي تتراوح بشجاعة بين الفترة ما قبل العالم العربي وحتى موسيقى الطليعة العالمية، أشعار الحب وإيقاع سريع فخور.
يوحّد صوت عايشي القوي الأنفي مع الكورس الذكري عالي النبرة والنغمة ونشوة الناي المفعمة بالأنفاس، بينما تضبط الطبول الإيقاع. وفي خضم ذلك كله تنتقل موسيقى مرتجلة بين العود والبانجو، ترافقها الكلارينت.
تثبت موسيقى حورية عايشي وبشكل مؤثر، أن التعمق في التقاليد لا يتعلق بالحفاظ على الرماد وإنما الإبقاء على اللهب حياً. يترجم مشروع عايشي موروث الأوراس إلى لغة جديدة قوية، ويوسّع ثقافة البربر بتوزيع جديد حديث بعيد كل البعد عن ثقافة البوب العرقية.
* شتيفان فرانتسين كاتب مستقل

إحضار الغناء البربري إلى العصر الحديث

إحضار الغناء البربري إلى العصر الحديث :: تعاليق

إحضار الغناء البربري إلى العصر الحديث

مواضيع مماثلة

مواضيع مماثلة