ونا" في منزل "أبو عبيدة البصري": ولد يوم الانقلاب.. وفشل في الباكلوريا وأخفق في الالتحاق بالدرك.. فاختار "طريق الجهاد"
منزل أسرة "أبو عبيدة وفي الصورة والده وبعض إخوته الصغار" |
ونا ـ خاص
الزمان: مساء يوم الأربعاء 12 ـ 12 ـ 1984، المكان: حي الانتظار بالسبخة غرب العاصمة نواكشوط، كانت الشمس تميل إلى الغرب أصيلا مؤذنة بنهاية آخر يوم في حكم المقدم محمد خونا ولد هيدالة، وبداية حكم العقيد معاوية ولد سيدي أحمد الطايع الذي سيمتد لأزيد من عشرين سنة.
كان الموريتانيون والعالم من حولهم مشغولون بمتابعة تطورات انقلاب قائد أركان الجيش على رئيسه في نواكشوط، وهل استتبت الوضع، وأي دور لفرنسا في تغيير ساكنة القصر الرمادي يومها، بالتوازي مع ميلاد من رماها بمهجته وروحه ليثخن فيها ويضربها في عقر دارها الدبلوماسية بنواكشوط بعد ربع قرن من ذلك التاريخ، وفي الطرف القصي من الناحية الغربية للعاصمة نواكشوط وبالتحديد في حي "كبة السبخة"، كانت أسرة "أهل بين ولد زيدان" في ذلك اليوم الشتوي البارد، مشغولة باستقبال المولود الجديد.
مع ساعات المساء تأكد الجميع أن الانقلاب نجح وأن الجنرال الفرنسي "لاكاز" أفلح في إزاحة ولد هيدالة من الحكم وتنصيب ولد الطايع، الذي أصبح فعلا رئيسا للبلاد، وفي نفس المساء كذلك أفلحت القابلات في إخراج المولود الجديد إلى النور، وكان هذه المرة ولدا ذكرا ـ وليس الذكر كالأنثى ـ فاستبشر الأب "ابين ولد زيدان" خيرا بالمولود الجديد وتهللت أسارير وجهه، وكيف لا يفرح لمولد ذكر جاء بعد عامين من ميلاد أخته الأنثى "أمينة"، وهو القادم من أعماق مجتمع، إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم، وإذا بشر بالبنين طار فرحا وانتشى حبورا.
ولد الطفل.. وتأكد جنسه، ونجح الانقلاب وتأكد اسم الرئيس الجديد..، فأصرت خالته على أن تسميه "معاوية" تيامنا بالرئيس الذي ولد تزامنا مع وصوله إلى الحكم، لكن والدته "خديجة بنت حرطان" أصرت على أن تسميه باسم شقيقها "موسى"، وبين اسم الأم واسم الخالة، نشأ الصبي "موسى ـ معاوية".
مرت السنوات ورحل سكان "كبة السبخة" إلى الحي الجديد "البصرة" بعد أن شرعت أرضه وقسمت على مستحقيها، وهناك نشأ الفتى "موسى" وترعرع وشب عن الطوق، بين والديه الأميين: "ابين ولد زيدان" المنحدر من من بلدة "صبو الله" بمقاطعة امبان، وأمه خديجة بنت حرطان المنحدرة من مقاطعة مُنكل، وكان هو الثاني بين ثمانية أشقاء (أربعة أولاد وأربع بنات).
كان الأب يعمل خبازا في إحدى المخابز لمدة 18 عاما، ولما تقدم به العمر أصبح غير قادر على مواصلة ذلك العمل الشاق، فغادر المخبزة إلى الساحة الواقعة قبالة سينما السعادة بالسبخة، حيث عمل حارسا ليليا للسيارات، وهي المهنة التي بدأها قبل 12 سنة وما زال يمارسها حتى الآن، ويقول ابين ولد زيدان أنه أمضى حتى الآن زهاء 30 عاما من العمل، لم ينم خلالها ليلة كاملة، لأنه ببساطة كان يعمل ليلا، فمن خباز في إحدى المخابز إلى حارس ليلي للسيارات، وكلها أعمال تتطلب السهر ليلا.
درس "موسى" الابتدائية والإعدادية والثانوية في مقاطعة السبخة، وعاش في أسرة فقيرة لا معيل لها إلا والده الذي يعمل حارسا للسيارات، في حين أن والدته تقوم أحيانا ببعض الأعمال الخاصة كخياطة "ملاحف" النساء، وكان كلما كبر كانت العائلة تكبر معه، لكنه فشل في تجاوز امتحانات شهادة الثانوية العامة (الباكلوريا) شعبة العلوم الطبيعية، مرتين، مما دفعه تحت ضغط الظروف القاسية، إلى ترك الدراسة والتوجه إلى سوق العمل الحر، لعله يجد ما يشد به أزر والده الذي اشتعل رأسه شيبا وبلغ من الكبر عتيا.
تعلم بسرعة حرفة طلاء البيوت، وعند إشراقة شمس كل صباح كان يغادر منزل والديه إلى ملتقى الطرق قرب العيادة المجمعة وسط العاصمة، حيث يزاحم عشرات من أمثاله، يتطلعون إلى كل قادم لعلهم يجدون لديه عملا يسيرا يدر عليهم ولو عائدا قليلا، وكان يعود عدة ليالي متتاليات صفر اليدين خاوي الوفاض، وأحيانا قليلة يوفق في مصادفة عمل يمكنه من العودة مساء بنقود قليلة يسلمها لوالده ويأوي إلى فراش النوم استعداد لرحلة غد السيزيفية في أتون حياة لا ترحم ضعيفا ولا تعطف على معوز.
وقبل عام وبالتحديد سنة 2008، حاول "موسى" تحت وطأة الحاجة أن يلتحق بسلك الدرك الوطني، وشارك في امتحان اكتتاب التلاميذ الدركيين، لكن الحظ العاثر كان له بالمرصاد تارة أخرى، فلم يتمكن من التجاوز، وعاد إلى عمله السابق طلاء ينتظر مع المنتظرين قرب العيادة المجمعة لعل الله يسوق إليه رزق يومه، دون أن تمنحه الظروف فرصة ليفكر في غده.
ورغم أنه تربى في حي "البصرة" حيث تنتشر الجريمة وعمليات السطو والاغتصاب واستعمال المخدرات بين أقرانه الذين يشكلون السواد الساحق من نزلاء السجن المدني بدار النعيم، إلا أنه لم يقع في فخ الانحراف، وظل شابا عاديا، يغدوا ويروح من بيت أهله إلى عمله أو بعض أصدقائه، ولم يغادر نواكشوط منذ ميلاده إلا قليلا، وفي المرات التي خرج فيها من العاصمة إلى بعض أقاربه في ولاية لبراكنة لم يكن يمضي معهم أزيد من أسبوع، ثم يعود أدراجه إلى نواكشوط، حيث نيطت عليه التمائم أول مرة، وصرخ صرخة الميلاد الأولى.
لم يكن "موسى" متدينا أكثر من باقي أفراد الأسرة، ولا "ملتزما" ـ على لغة الجماعة ـ وتقول خالته إنه في إحدى المرات طرد عناصر من جماعة الدعوة والتبليغ جاؤوا إلى الحي في مهمة دعوية.
طلب العلم.. أم طلب الموت
وفي شهر نوفمبر الماضي، وبينما كان "ابين ولد زيدان" ـ والد الأسرة يتأهب للمغادرة إلى محل عمله حراسا ليليا للسيارات، فوجئ بابنه "موسى:" وهو يحمل معه حقيبة صغيرة بها ملابسه، ويودعه قائلا إنه ذاهب لطلب العلم، حاول الوالد أن يثني الولد عن السفر، فقد بات بحاجة ماسة إلى مساعدته في إعالة الأسرة والقيام عليها، لكن الفتى أصر على السفر، فحاول منه معرفة وجهته لكن الأخيرة لم تكن أيسر من الأولى.. وخرج "موسى" من المنزل وتوارت أخباره عن ذويه، مع تواريه خلف أول شارع يبتعد فيه عن منزلهم.
لم تكن رحلة طلب العلم تلك، سوى رحلة باتجاه معسكرات تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي في شمال مالي والجزائر، وهناك اختار له "الإخوة" اسما جديدا، لم تفكر والدته يوما ولا خالته في إطلاقه عليه، إنه اسم "أبو عبدية البصري"، نسبة إلى حي البصرة الذي هرب هو من جحيم حياته البائسة، بحثا عن سعادة مفقودة، قيل له هناك في تخوم الصحراء إنها تنتظره في مرحلة ما بعد الشهادة.
تدرب "ابو عبيدة" أو "معاوية" أو "موسى" ـ تعددت الأسماء والمسمى واحد.. إنها رحلة الأسماء المتغيرة ـ على استخدام أنواع الأسلحة الخفيفة والمتفجرات، وسجل وصيته، وتمنطق بموته المحنط في حزامه الناسف وتأبط بطاقة تعريف زميل له هو أحمد ولد فيه البركة، في حلقة هي الأخيرة من رحلة "الأسماء المتغيرة" لهذا الفتى الباحث عن "السعادة المفقودة"، وأقفل عائدا إلى نواكشوط، "حاملا روحه على كفه"، كما قالت القاعدة في بيانها، أو مضمرا الخراب والشر لبلده كما قالت السلطات الموريتانية.
ومساء الخميس السادس من أغسطس الجاري، كانت "خديجة بنت حرطان" ـ والدة موسى ـ تجلس أمام عريشها في منزلهم المتواضع إلى حد الشفقة، بعد أن أنهت صلاة المغرب، وفجأة صاح أحد أبنائها الصغار، "إنه موسى قادم" قفزت المسكينة وعانقت ابنها العائد بحرارة، وضمته إلى صدرها بحرقة، ربما كادت أن تفجر الحزام الناسف الذي جلبه معه من "رحلة طلب العلم"، لولا أنه ساعتها كان قد نزعه إلى حين.
أمضي ليلة الجمعة بين والديه وأشقائه، وقضى معهم كذلك يوم الجمعة وسحابة يوم السبت، لم يخرج إلا قليلا، ومساء السبت وبعد صلاة العصر خرج "موسى" ـ وهو ساعتها "أبو عبيدة البصري" العائد من "معسكرات المجاهدين" في مهمة العمر، وليس "موسى ولد زيدان" الذي تربى وشب في حي البصرة ـ من بيت أهله دون أن يودع، لكن هذه المرة غادر لكي لا يعود أبدا.
الخروج الأخير
فقد خرج من حي البصرة الفقير البائس، ويمم وجه صوب حي تفرغ زينة الراقي المترف، وهناك كانت السفارة الفرنسية مقصده، بعد أن شد الحزام الناسف، وأعد العدة وقرر أن يرحل عن الدنيا مساء كما جاءها مساء، لكنه أراد أن يرحل ومعه آخرون ممن يعدهم من "أعداء الله الصلبين الحاقدين"، الذين كانوا يوم ميلاده يُملكون من شاءوا ويعزلون من شاءوا في هذا البلد "المغلوب على أمره".
كان الوقت أصيلا عندما اقترب من السفارة الفرنسية، وكانت الأعمال قرب بوابتها الرئيسية حيث يجري بناء حواجز أمنية، اقترب من ملتقى الطرق وألقى نظرة باتجاه السفارة كان الوصول إلى داخلها مستحيلا، فالمتاريس نصبت، والحراس المسلحون على أهبة الاستعداد.، ثم عرج ناحية المطعم الصيني القريب منها، وتوجه غربا عبر الشارع الذي يمر أمام سفارة دولة الإمارات العربية المتحدة، وهناك تراءى له اثنان من "النصارى الكافرين"، إنها فرصة "الشهادة والإثخان في أعداء الله ورسوله"، كان الفرنسيان يسيران على الرصيف الجنوبي للشارع قبالة السفارة الليبية باتجاه بوابة سفارة دولة الإمارات، وعند السور الخلفي للسفارة الفرنسية، سار "أبو عبيدة" قليلا بمحاذاتهما، ثم صاح "الله أكبر.. الله أكبر"، وسحب خيطا بيده اليسرى من محاذاة خاصرته، ودوى انفجار هائل اهتزت له الأحياء المجاورة، وذعر سكانها، لكن الفرنسيين وهما من عناصر الدرك المكلفين بأمن السفارة تمكنا من الابتعاد عنه عند تكبيره، فأصيب أحدهما بجراح بسيطة، بينما أصيبت سيدة موريتانية كانت تمر بسيارتها من الشارع وقت الحادث في وجهها.
انقشع غبار الانفجار، فكان المشهد مروعا، رأس فتى أسمر في ريعان شبابه، وعنقه وجزء كبير من صدره، ملقى على قارعة الطريق الجنوبية، بجوار سلة لرمي القمامة وخزان ماء من البلاستيك وضعه عمال إصلاح الطريق، ويد يسرى مصحوبة بجزء من ساعدها سقطت شمال الطريق بجوار حائط السفارة الليبية، ووسط الشارع بقايا جثة متماسكة مؤلفة من بطن ويد واحدة ورجلين، هذا هو المشهد النهائي الذي خلفته العملية الانتحارية الإرهابية كما تسميها السلطات، أو البطولة الاستشهادية كما سمتها القاعدة..
أما الأسرة المفجوعة دون أن تعلم بذلك، فقد فوجئت بعد يومين من العملية بالشرطة وهي تداهم منزلها وتقلبه رأسا على عقب، وتعتقل جميع أفراد الأسرة ثم تفرج عنهم دون أن تحيطهم علما بما حدث ، ومساء الاثنين الماضي عادت الشرطة واعتقلت "محمد" وهو الأخ الاصغر لمنفذ العملية، واصطحبت معها الأب إلى إدارة الأمن وهناك تعرف على صورة ابنه "موسى" وأخبروه بأنه ليس سوى "ابو عبيدة البصري"، الذي نفذ ذلك الهجوم الانتحاري وفجر نفسه قرب السفارة الفرنسية بنواكشوط مدشنا بذلك مرحلة جديدة من صراع السلطات الموريتانية وتنظيم القاعدة.
أما محمد شقيق موسى، فقد بقي معتقلا لدى الشرطة لمدة أربع وعشرين ساعة، يقول ذووه إنه تعرض خلالها لأبشع أنواع التعذيب، وتم تعليقه على طريقة "الجكوار" المعروفة لدى الشرطة الموريتانية مرتين.
حسرة على مصير مجهول
"ابين ولد زيدان" والد الفتى موسى قال وهو يتحسر على مصير ابنه، إنه لا يأسف لموت أول مولد ذكر له، ومن كان ينظر إليه باعتباره معينه المؤمل على تحمل أعباء الأسرة وخليفته فيها بعد قضاء الله، وذلك لإيمانه بأن الموت قدر مكتوب لا مفر منه، ولكل أجل كتاب، لكن مرد حزنه وحيرته هو مصير ابنه الذي يخشى أن يكون "قاتل النفس الذي حرم الله عليه الجنة"، ويضيف أنه رغم يقينه بما جرى، ومشاهدته لصورة ابنه بعد العملية الانتحارية، فإنه لم يستطع بعد استيعاب ما حصل، ويضيف "في النهاية لن أغفر لم غرروا بابني ودفعوا به إلى هذا المصير"، أما والدته خديجة بنت حرطان، فقالت إنها لم تدرك بعد الحقيقة كاملة، لكنها تعرف أن العملية الانتحارية فعل سيئ، وأنها لم ترب ابنها ليجلب لهم وللبلد هذه المصيبة ـ حسب قولها ـ
وبدلا من أن ينظر إلى أسرة أهل ابين ولد زيدان، كأسرة منكوبة مكلومة، تقدم لها التعازي والمواساة، فقد أصبحت محل شك وريبة لدى السلطات الأمنية ولدى السكان، وأصبح زوارها من المتفرجين بدلا من المعزين، وكأن أفراد الأسرة شركاء في أمر لا علم لهم به، ولا يد، وهو ما ضاعف مأساتهم وزادهم حزنا على حزن.