"لو لم يُـغادر عبد الباسط علي المقرحي (57 عاما) سجن غرينوك غرب اسكتلندا، ولم يعُـد إلى أهله في ليبيا، لما تَـركت قبيلة المقارحة الاحتفالات الضخمة التي يستعِـد الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي (69 عاما) لإقامتها في الذكرى الأربعين لوصوله إلى سدّة الحكم".هكذا شرح خبير في الشؤون الليبية لـ swissinfo.ch الدّوافع التي حمَـلت الدولة الليبية على وضع كل ثِـقلها المالي والدبلوماسي في الميزان، للإفراج عن مواطنها المقرحي المُـدان بتفجير لوكربي سنة 1988.
ويمكن القول أن هذه الخطوة الرّمزية كانت ضرورية لاستكمال الصُّـورة المُـغايرة التي تعتزم ليبيا تكريسها في ذِكرى مرور أربعة عقود على الحركة التي أقدَم عليها الضبّـاط الأحرار بقلب الملكية في الأول من سبتمبر 1969، وهي صورة البلد المُـندمج في المجتمع الدولي، لا بل والمستقطب لمُـمثلي الدول الكبرى التي تسعى لخطب ودِّه، بما فيها الغريمتان اللّـدودتان سابقا، بريطانيا والولايات المتحدة.
وكان المقرحي، الضّـابط السابق في المخابرات الليبية، مهّـد لخطوة الإفراج عنه بأن تقدّم إلى المفوضية الاسكتلندية لمُـراجعة القضايا الجنائية، وهي هيئة مستقلّة تتكوّن من مُـحامين وقضاة تنظر في الطّـعون لأحكام سابقة، تقدّم لها بالطعن في الحُـكم الصادر ضدّه في شهر سبتمبر سنة 2003.
وفعلا درست المُـفوضية ملف القضية وبحثت عن المعلومات والأدِلّـة وأجرت العديد من المقابلات مع أطراف القضية، وأصدرت قرارها يوم 28 يونيو 2007، الذي أدّى إلى إحالة ملف القضية إلى محكمة الاستئناف من جديد.
وفي القانون الاسكتلندي، يحِـقّ للمحكوم بالمؤبّـد أن يتقدّم بالالتماس إلى لَـجنة الالتِـماس، وبعد أن قدّم لهم المقرحي الالتماسات، اقترحوا عليه بأن يقضي 27 سنة في السِّـجن، لكن أُسَـر الضحايا الأمريكية طعَـنت في المدّة مُـطالبة بزيادتها.
وأفاد مصدر ليبي مُـطّـلع أن رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير لعب دورا أساسيا في تسريع الإجراءات من أجل الإفراج عن المقرحي، المحكوم بالمؤبّـد، وإقناع الجِـهات المعارضة لعودته إلى بلده، بأن وضعه الصحي ميْـؤُوس منه، وأن قبول بريطانيا بهذا التّـنازل يضعُـها في موقع مفضّـل في المنافسة مع البلدان الغربية الأخرى على الفوز بالصفقات التجارية مع ليبيا، وخاصة في قطاع الطاقة.
ويدُلّ هذا الدّور على أن منطِـق الدولة تغَـلّـب على منطِـق الاستماع إلى مواقِـف الجمعيات غير الحكومية، وخاصة لجنة أسَـر ضحايا لوكربي، التي عارضت الإفراج عن المقرحي. وأشارت صحيفة "ذي غارديان" البريطانية في عددها الصادر يوم الأربعاء 19 أغسطس إلى هذا الأمر، حين أكّـدت أن رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون اتّـهم بالإسراع في إبرام معاهدة مع ليبيا لإعادة المقرحي إلى بلده، كجزء من سعْـيِ لندن لحماية مصالِـح بريطانيا النفطية في ليبيا.
تغيير بزاوية 180 درجةوظهر هذا التحوّل جلِـيا في تغيير الموقِـف من السّجين المُربك، إذ وافقت السلطات البريطانية على عودتِـه إلى بلده، بعدما عارضت حتى الاستجابة إلى طلبات إنسانية بسيطة تقدّمت بها أسْـرته. وروى المقرحى نفسه في حديثه الأخير إلى صحيفة "أويا" الليبية، التي أسسها سيف الإسلام، أنه وِفق الاتِّـفاقات والمعاهدات المعروفة وطِـبقا للقوانين الاسكتلندية، يحِـق للسّـجين أن يستقبِـل أسْرته، وأمّـنت السلطات الليبية لأسرة المقرحي كل ما تحتاجه لتكون قريبة منه في اسكتلندا، إذ وفّـرت البيت والسيارة وكل الضّـرورات، وأقامت أسرته لمدّة سنة ونصف، لكن السلطات رفضت إعطاءهم تأشيرة إقامة، وكل التأشيرات التي منحتها لهم كانت تأشيرات سياحة فقط، رغم دفع كل الضرائب المطلوبة.
وعند زيارة أحد أعضاء البرلمان البريطاني للمقرحي، قدّم له الأخير شكوى، فاستغرب الأمر. كما مُـنِـع أبناؤه من الدِّراسة في المدارس الاسكتلندية، وتمّ ذلك بناءً على رسالة من الحكومة البريطانية، تقول بأنه لا تحِـق لهم الدِّراسة في مدارس حكومية، وإنما في مدارس خاصة، كما أن المدارس الخاصة رفضت أيضاً، مُـبرِّرة رفضها باعتباراتٍ أمْـنية.
لكن الظاهر أن هذا الموقف الجديد الذي تبنّـته الحكومة البريطانية بعد اتِّـصالات مُـكثّـفة مع موفدين ليبيين رفيعي المستوى، بينهم سيف الإسلام، لا يحظى بالتفهُّـم من الرأي العام، وكذلك من أجهزة الإعلام وقادة الرأي في بريطانيا، وهو ما تجلّـى من صَـيْـحات الغَـضب التي أطلَـقها المارّة خلال عبور سيارة السِّـجن البيضاء المُـتوجِّـهة إلى مطار غلاسكو، حيث كانت الطائرة الخاصة للقذافي تنتظِـر المقرحي لتقله إلى وطنه.
أسف أمريكي.. شديدوفيما برّر وزير العدل الاسكتلندي كيني مكاسكيل الأمر الذي أصدره بالإفراج عن المقرحي بأسباب إنسانية، وهو موقِـف تمّ تنسيقه مع رئيس الوزراء البريطاني براون، التزَمت الحكومة الأمريكية موقِـفا أكثر مخاتلة، إذ كانت في الأساس متَّـفقة مع إيجاد مَـخرج دبلوماسي، من النّـوع الذي أعلن عنه وزير العدل الاسكتلندي، لكنها خشِـيت على سُـمعتها وصِـدقِـيتها لدى عائلات الضحايا والأوساط المرتبِـطة بهم اجتماعيا، فأعلنت تحفُّـظها على الخطوة و"أسفها الشديد" على الإقدام عليها.
صحيح أن السيناتور جون ماكين أعلن في أعقاب زيارة قصيرة لليبيا في وقت سابق من الشهر الجاري، أن واشنطن تُـعارض الإفراج عن المقرحي، لكن المفاوضات على تطوير العلاقات الثنائية وصلت في الفترة نفسها إلى مرحلة لم تبلُـغها منذ أربعين سنة في مجالات مُـختلفة، ليس أقلّـها التنسيق الأمني، وهو ما كرّسته الزيارة الأخيرة لمُـساعِـد وزيرة الخارجية الأمريكية جيفري فلتمان إلى طرابلس ولقاءاته مع القذافي وكِـبار المسؤولين اللِّـيبيين. وتجلّـت تلك الازدواجية في المسافة بين تفهُّـم الإدارة الأمريكية، وربّـما تشجيعها لإطلاق المقرحي في اتِّـصالات الكواليس، بينما أعلن البيت الأبيض "أسفه الشديد" لتلك الخُـطوة، مؤكِّـدا في بيانه، أنه يُعرب عن "تعاطفه الشديد مع العائلات التي تعيش يوميا مُـعاناة فِـقدان أحبّـائها"، مضيفا في الوقت نفسه، "نحن نُـدرك التأثير الدائم لمِـثل هذه الخسارة على أي أسرة".
ومن هذه الزاوية، يبدو التّـجاذب بين قوّة تأثير المنظمات الأهلية من جِـهة، وجاذبية مَـنطق الدولة من جهة ثانية، وهو ما لخّـصته عبارة وزير العدل الاسكتلندي القائل: إن قانون بلده ينُـصّ على "تطبيق العدالة، ولكن كذلك إظهار الرأفَـة"، بل وذهب إلى حدِّ القول أن المقرحي أصبح الآن "يواجِـه عدالة من قُـوّة عليا (...) أنه يحتضر".
ومن هذه الزاوية أيضا، يمكن فهْـم الموقِـف السويسري، الذي آثر المُـصالحة مع ليبيا لطَـي صفحة الخِـلاف العاصف، الذي ثار في أعقاب اعتقال نجل الزعيم الليبي هانِّـيبال القذافي في جنيف العام الماضي. وتوعّـدت ليبيا بقطع إمداد سويسرا بالنفط وسحْـب أرصدتها من مصارفها، ونفّـذت وعيدها، بالإضافة لاحتجاز مُـواطنيْـن سويسرييْـن يعملان في ليبيا منعتهما من المغادرة. وأصرّ الليبيون على مطالبة السلطات السويسرية بالاعتذار، عما اعتبروه إهانة لمواطن غير عادي، على الرغم من أن هانيبال معروف بمُـغامراته التي تحدّى فيها القوانين في بلدان غربية عدّة، بينها فرنسا والنمسا.
ولم يجد السويسريون بُـدّاً في أعقاب اتِّـصالات معقّـدة مع الجانب الليبي من تقديم الاعتذار على لِـسان الرئيس السويسري هانس رودولف ميرتس، الذي أدّى زيارة مفاجِـئة إلى ليبيا يوم الخميس 20 أغسطس، وأعلن في مؤتمر صحفي عقَـده في طرابلس، عن اعتذاره للشعب الليبي على تلك الحادثة.
ووقَـع ميرتس مع أمين اللّـجنة الشعبية العامة (رئيس الوزراء) البغدادي علي المحمودي مذكرة تفاهُـم، اعتذرت بمُـوجبها سويسرا عمّـا تعرّض له نجل القذافي من اعتقال، فيما أقرّ الطرفان استِـئناف الرّحلات الجوية بينهما وتكليف دبلوماسيِـين حلّ جميع المشاكِـل القُـنصلية العالِـقة في غضون ستِّـين يوما، بالإضافة لتشكيل هيئة محكِّـمين من البلديْـن وطرف ثالث تجتمع في لندن، للتحقيق في ملابَـسات اعتقال هانيبال القذافي ومحاسبَـة من تثبت ارتكابه مخالفات جزائية أو جنائية من الموظفين السويسريين، كذلك تعهّـد الجانب السويسري بعدم العودة إلى تلك الممارسات مع المسؤولين والمواطنين الليبيين.
مؤشِّـران رئيسيانوسيبدو في النهاية، أن الإفراج عن المقرحي بات إجراءً شكليا ورمزِيا، باعتبار أن السَّـجين الأشهر في العالم يُـعاني من مرحلة متقدِّمة من سرطان البروستات، وقدّر الأطباء أنه لن يعيش أكثر من ثلاثة أشهر، وإن كانت الأعمار بيد الله. لكن اللاّفت في الأمر، مؤشِّـران عميقا الدّلالات:
أولهما، جنوح حكومات الدّول الكبرى إلى منطِـق الدولة وتغليب مصالحها العُـليا على حِـساب بعض المبادِئ التي تتأسّـس عليها المجتمعات الديمقراطية. وثانيهما، تتّـصل بالشأن الدّاخلي الليبي، إذ كشفت ظروف الإفراج عن المقرحي أن سيف الإسلام القذافي لم يعتزِل السياسة، مثلما قيل، وأنه لعِـب دورا وراء السِّـتار قد يكون حاسما في قرار الإفراج، ممّـا يعني أن ابتِـعاده عن الرّكح السياسي مؤقّـت، وربما عاد بأكثر قوّة بعد طَـي والِـده أربعة عقود من الجلوس على "عرش" ليبيا، ممّـا يستدعي التفكير في مُـستقبل النِّـظام واستطرادا انتِـقاء الخليفة القادِر على المحافظة على وِحدة الحُـكم واستمراره.
تونس – رشيد خشانة – swissinfo.ch