أقرت الحكومة السويسرية يوم 26 أغسطس الجاري في اجتماعها الأسبوعي الأول بعد الأزمة التي أثارها اعتذار رئيس الكنفدرالية هانس - رودولف ميرتس لليبيا على معاملة سلطات جنيف لنجل الزعيم الليبي وزوجته الصيف الماضي، بأن الاتفاق الذي أبرمه السيد ميرتس مع السلطات الليبية مُلزم دوليا وبأنها ستشرع في تطبيقه.وفي حديث خص به swissinfo.ch، تطرق الدكتور حسني عبيدي، مدير مركز الدراسات والبحوث حول العالم والوطن العربي ودول المتوسط في جنيف، إلى نقائص هذا الاتفاق وما سيخلفه من تأثيرات سلبية على أداء الحكومة الفدرالية وعلاقاتها مع سلطات الكانتونات.
بدون انتظار الإفراج الفعلي عن المواطنيْن السويسريين اللذين تحتجزهما ليبيا منذ أكثر من عام كإجراء اعتـُبر انتقاميا على حادثة إيقاف هانيبال القذافي وزوجته، وبعد التوصل بتـأكيدات من الوزير الأول الليبي البغدادي علي المحمودي بأن "استكمال الإجراءات الإدارية الليبية ما هي إلا مسالة وقت"، للسماح بعودة المحتجزين السويسريين، أقرت الحكومة السويسرية في اجتماعها الأسبوعي اليوم 26 أغسطس بأن "الاتفاق الذي وقعه الرئيس السويسري هانس - ردولف ميرتس مع السلطات الليبية، يعتبر ملزما بالنسبة لسويسرا دوليا وأن المرحلة القادمة هي تطبيقه".
وكان الرئيس السويسري قد تحرك بشكل انفرادي لتوقيع هذا الاتفاق للخروج من الأزمة التي سممت العلاقات بين الجانبين بعد اعتقال شرطة كانتون جنيف لنجل الزعيم الليبي هانيبال القذافي وزوجته ألين في جنيف في 15 يوليو 2008، بسبب اتهامهما بسوء معاملة خادمين عربيين.
swissinfo.ch: بحكم متابعتكم لهذا الملف منذ البداية، ما رأيكم في قبول هذا الاتفاق الذي كان محط العديد من الانتقادات القانونية والسياسية؟حسني عبيدي: أعتقد أن الحكومة السويسرية وافقت وهي مرغمة على الذهاب إلى المحكمة الدولية (التي ينص عليها الاتفاق)، لكن في نفس الوقت، كان من الصعب عليها أن ترفض قرارا من هذا النوع لأنه مُوقع من قبل رئيس المجلس الفدرالي (الحكومة)، حتى إن كانت فترة رئاسته تستمر لمدة سنة فقط، لكن صلاحياته واسعة أثناء ترأسه للمجلس، وبالتالي، فإن وزارة الخارجية ملزمة بأن توافق على بنود الاتفاق والالتزام به دوليا. والمرحلة التطبيقية القادمة، هي أصلا من صلاحيات وزارة الخارجية، وبالتالي، مصالح السيدة ميشلين كالمي - ري هي التي ستكون معنية بتطبيق هذا الاتفاق.
لكني أرى نقطة أخرى بالنسبة لسويسرا، وهي أنه منذ البداية كانت تبحث على ضمانات. ولربما أنه كان من الصعب عليها الحصول على ضمانات في كيفية تعاملها مع ليبيا في كل المراحل،لكن المحكمة (التي تم الاتفاق بشأنها) من محاسنها أنها ستوفر جهة ثالثة يمكن لها قانونيا أن تضمن حيثيات ونتائج أي قرار يصدر بعد مداولات هذه المحكمة، التي ستضم ممثلا عن الجانب الليبي وممثلا عن الجانب السويسري وقاضيا تتم موافقة الطرفين عليه لكي يرأس اللجنة.
لكن عندما يتم الاتفاق بخصوص لجنة تحكيم أو محكمة للنظر في موضوع الخلاف، هل يُعقل أن تضاف بنود تحدد نوعية العقوبات بدل ترك ذلك للجنة التحكيم؟حسني عبيدي: قبل الخوض في أحقية أو أهلية رئيس الكنفدرالية للذهاب أصلا إلى طرابلس وتقديم الاعتذار، أعتقد أنه كان من الخطإ أن يكون من بين بنود الاتفاق تقديم الاعتذار على ما بدا من سلطات جنيف. وعندما نتحدث عن سلطات جنيف، نتحدث عن سلطات سويسرا، لأنه كما تعلمون هناك قاعدة ذهبية، لا توجد فدرالية في السياسة الخارجية، أي أن الحكومة الفدرالية في برن والرئيس الفدرالي ميرتس مسؤولان عن كل ما تقوم به سلطات جنيف.
وبالتالي، كيف يمكن تقديم الاعتذار وفي نفس الوقت الاتفاق على إقامة محكمة، لأن من صلاحيات هذه المحكمة تحليل ما وقع بالضبط في شهر يوليو 2008. ومن هذا المنطلق، فإن تقديم الاعتذار هو استباق لحكم المحكمة.
حسني عبيدي، مدير مركز الدراسات والأبحاث حول الوطن العربي والمتوسط في جنيف
هناك حديث عن خلافات بين وزارتي الخارجية التي أدارت الملف منذ البداية ووزارة المالية التي يرأسها رئيس الكنفدرالية هانس-رودولف ميرتس التي تولت الملف في المرحلة الأخيرة. هل تعتقد بأن هذه الخلافات ستكون لها تأثيرات لا محالة على أداء الحكومة الفدرالية وعلى التوافق بين أعضائها؟حسني عبيدي: مما لا شك فيه، هو أن هناك خلافات في وجهات النظر حول طريقة إدارة رئيس الكنفدرالية وطريقة إدارة مصالح وزارة الخارجية، التي هي محقة في ذلك. فهذه الأخيرة بعد أن فرّطت في ورقة سحب الشكوى وغلق الملف، لم تبق لها أوراق مهمة في طريق المفاوضات، في الوقت الذي يملك فيه الطرف الليبي العديد من الأوراق، لذلك، لم ترغب في التسرع إلى أن تصل إلى قناعة بأن الجانب الليبي جدي في رغبته في الوصول إلى حل للقضية. لكن أعتقد أن رئيس الكنفدرالية السيد ميرتس أراد أن يضع حلا سريعا ونهائيا، نظرا لاقتناعه بأن سويسرا أصبحت أمام طريق مسدود.
لكن هذا الحديث بلغة غير موحدة في الحكومة السويسرية، أثر في ثقلها في المفاوضات وفي طريقة صنع القرار، وأبدى للطرف الليبي بأن الموقف السويسري هو موقف ضعيف.
لقد ظهر شبه تضامن من قبل الكانتونات الأخرى مع جنيف في هذه المواجهة مع الحكومة الفدرالية بخصوص الطريقة التي اختارها رئيس الكنفدرالية لحل الخلاف. فهل تعتقدون أن ذلك قد يكون بمثابة ثغرة في هذا الاتفاق شبه المقدس الذي هو الفصل بين السلطات؟حسني عبيدي: فعلا خطوة الرئيس ميرتس وذهابه إلى ليبيا شكلت أزمة سياسية وأزمة على المستوى الدستوري في سويسرا، لأنها سابقة قد تكون خطيرة في العلاقة السلمية والصحية بين الدويلات والحكومة الفدرالية. وكان بالأحرى بالرئيس السويسري، وذلك أضعف الإيمان، أن يستشير سلطات دويلة جنيف وأن يعلمها ببعض البنود، وخاصة البند الذي يتعلق بالمحكمة الدولية، لأن في ذلك انتهاكا لصلاحيات ولدستور كانتون جنيف، لذلك، من إحدى هفوات الرئيس ميرتس هو أنه استخف بقضية استقلالية القضاء، وكذلك استخف بالعلاقة الكنفدرالية التي هي مهمة جدا في سويسرا وهي أساس هذا البناء، وبالتالي، ليس مستغربا أن نرى تفاجُـؤ الكانتونات الأخرى وتضامنها مع جنيف.
لكن أعتقد أن هناك اختلافا بين عقلية الرئيس ميرتس، المنحدر من دويلة ناطقة بالألمانية، وعقلية سلطات جنيف. فهو كرجل مال واقتصاد يريد فقط النتيجة مهما كانت الوسيلة. في حين أن ثقافة سويسرا الروماندية (الناطقة بالفرنسية)، هي ثقافة مؤسسات يمكن القول أنها قريبة نوعا ما من الثقافة الفرنسية، أي أنها تقدس المؤسسات وتقدس الفصل بين السلطات.
وهذا يقودنا إلى إثارة نقطة أخرى، وهي دور الأوساط الاقتصادية في التسريع بهذا الحل. كيف كان تأثير هذه الفئة؟حسني عبيدي: من المؤكد أن السيد ميرتس تعرض لضغوطات، حتى وإن كما يقول البعض ضغوطات إيجابية وودية من قبل شركات تجارية كبرى ورجال أعمال لا يريدون فقدان السوق الليبية ولا يريدون فقدان الحصص الكبرى، التي يمكن الفوز بها في السوق الليبية لأنها سوق واعدة.
سويسرا بإمكانها أن تعيش بدون السوق الليبية. فالواردات النفطية يمكن تعويضها بواردات من مصادر مختلفة، لكن تخوف الشركات السويسريةأو لِنقُلأصحاب رؤوس الأموال، من فقدان سوق الغد في ليبيا، هو الذي جعل ميرتس يتعرض لهذه الضغوط من قبل بعض الشركات الكبرى التي تدرك جيدا بأن الفوز بتلك العقود في السوق الليبية، ليس بتلك الشفافية السائدة في أسواق أخرى، وأن ذلك مرهون بمدى حسن العلاقة مع النظام السياسي القائم. وإذا لم يرض عنك النظام السياسي، فلن تقبل بك السوق الاقتصادية.
تحدثنا عن تأثريات تعقيدات النظام السويسري في معالجة مثل هذه القضايا، ماذا يمكن القول عن طريقة أداء الجانب الليبي؟حسني عبيدي: أكيد أن الجانب الليبي استفاد من الثغرات السويسرية، أي تعقيدات النظام السويسري ما بين سلطات الكانتونات والسلطات الفدرالية، كما استفاد ووعى جيدا لوجود اختلافات حتى داخل الحكومة الفدراليةوأن هناك استغلالا سياسيا للأزمة مع ليبيا عشية تعيين خليفة لوزير سيستقيل (وزير الشؤون الداخلية باسكال كوشبان)، وكذلك عشية انتخابات مهمة في كانتون جنيف، لأن اليسار يمكن أن يفقد الأغلبية في الحكومة وفي البرلمان المحلي.
كما أن ليبيا ليس لديها ما تخسره في هذه القضية، خاصة بعد العودة شبه النهائية للمسرح الدولي، بعد تبوئها رئاسة الاتحاد الإفريقي والجمعية العامة للأمم المتحدة، وبعد الاعتذارات المتكررة لبرلوسكوني والزيارات المتكررة لقادة دول أوروبية، التي لا تريد شيئا سوى الفوز بحصص تجارية، مما جعل ليبيا تصبح في موقع قوة في تفاوضها مع سويسرا.
وأخلاقيا، ما الذي يمكن أن نستننتجه من كل هذه العملية وتداعياتها فيما يتعلق بتطبيق القانون بدون تمييز على القوي والضعيف وفيما يتعلق بقدسية الفصل بين السلطات؟حسني عبيدي: هذه القضية ستكون فعلا سابقة في العلاقات الدولية، لأنها أثبتت بأن الجماهيرية الليبية تسيس، ليس فقط سلاح النفط، بل أيضا القدرة الاقتصادية، ولكن هذا فقط في مصلحة النظام وليس في المصلحة العليا للشعب الليبي.
ثم أن هناك إجحافا مفرطا لبلد يمكن القول أنه كان البلد الوحيد الذي فتح أبوابه ومنح التأشيرات لأبناء الشعب الليبي عندما كانت كل الأبواب الأخرى موصدة.
ثم كذلك بالنسبة للقانون الدولي، يمكن أن يشكل ذلك ثغرة كبرى، لأن سويسرا بنت سمعتها على فصل السلطات وعلى جدية النظام الكنفدرالي وعلى احترام القانون الدولي، لأنها هي التي تعطي الدروس في ضرورة احترام القانون الدولي بوصفها البلد الراعي لمعاهدات جنيف.
وأخيرا، ما حدث يمكن أن يعتبر انتكاسة بالنسبة للتواجد العربي المسلم في سويسرا عشية انتخابات حول مبادرة حظر بناء المآذن، لأنه سيتم الخلط بين الأمور،وبالتالي، فإن هذا التواجد العربي والمسلم هو الذي سيدفع ثمن هذا التلاعب أو الاستغلال المفرط للنفوذ.
أجرى الحوار محمد شريف - جنيف - swissinfo.ch