على رائحة ''البوراك'' الذي كانت تعدّه بنفسها، فتحت لنا سلطانة الطرب العربي ''فلة عبابسة'' أبواب شقّتها، الواقعة بأحد أحياء العاصمة، حيث جلسنا وإيّاها على مائدة إفطار واحدة، شكّلت بين ثناياها قعدة رمضانية لا تتكرّر ولا تنسى.
بمجرد أن وطئت أقدامنا الحيّ الذي تقطن فيه مضيفتنا، فإذا بأعوان الأمن يستفسرون عن مقصدنا، الذي تعرّفوا عليه بسهولة، فمن لا يعرف سلطانة الطرب العربي فلة عبابسة.. عفوا.. ''فلة الجزائرية''، كما يحلو لها أن نناديها بهذا اللقب، الذي تمكنت من افتكاكه بجدارة واستحقاق، بعد مسيرة فنية طويلة.
طرقنا الباب، فهرعت إحدى وصيفاتها لفتحه، وما إن كشفنا عن هوّيتنا إلاّ وفنانتنا تدعونا لولوج مطبخها العابق برائحة ''البوراك''؛ حيث رحّبت بنا بطريقة أقلّ ما يمكن أن يقال عنها إنها تذوّب كافة الحواجز أمام من ينزل ضيفا عليها للمرة الأولى. وبعد دقائق معدودة، هاهو المؤذّن يعلن عن انقضاء خامس أيّام شهررمضان، وسط ديكور يختزل في طيّاته فسيفساء متناغمة، وقّعتها أشهى الأكلات وألذّ الوجبات التي تزيّنت بها مائدة إفطار مضيفتنا، التي استسمحتنا عقب أول ملعقة ''شربة'' تناولتها، حيث توجهت لأداء صلاة المغرب، سعيا منها للمحافظة على صلواتها وتعزيز أواصر العلاقة الحميمية التي تجمعها بهذا الشهر الفضيل.
وأنا أغني لسه فاكر طلب مني والدي خفض صوت الراديو لاعتقاده أن التي تغني هي أم كلثومبينما نحن على وشك الانتهاء من الإفطار، عادت بنا ''فلة'' إلى طفولتها، وقالت إنها من مواليد برج الثور بفرنسا (23 أفريل)، وقد أسرّت لنا بأن طفولتها الحقيقية تعيشها الآن، فبعد رحيل والدتها فاطمة الزهراء ووالدها عبد الحميد عبابسة ـ الذي يعدّ واحدا من بين أهم أعمدة الأغنية البدوية في الجزائر ـ هاهي اليوم تستحضر أيام زمان رفقة ابنتها سكينة التي تعتبر ثمرة زواجها المبكّر، وكذا حفيديها خالد وخلود، وأخواتها القايمة وفوزية وعايدة ونعيمة، فضلا عن أخويها صالح ونجيب، الذين تربطهم بها علاقة تفاهم لا مثيل لها، لا سيما وأنهم ينحدرون جميعا من وسط فني عريق، أفرز ''كونسرفتوارا'' حقيقيا في عائلة عبابسة، كما أن خالتها السيدة ليلى الجزائرية كانت مطربة عصرها، وزوج خالتها الحاج منوّر كان بدوره أحد أعلام الأغنية الشعبية الأصيلة، فكل هذه الوجوه النيّرة، تقول ''فلة'': ''تعدّ بمثابة المخاض الذي سبق ولادتي الفنية، فبدايتي الحقيقية، كانت كعازفة ضمن إحدى الفرق النسوية، وحينها كم كنت أخشى أن يسمعني والدي وأنا أدندن، ولكن شاءت الأقدار أن يفضح أمري، ففي أحد الأيام وبينما هو يتأهّب لصلاة المغرب، أطلقت العنان لحنجرتي، وأخذت أردّد أغنية ''لسّى فاكر'' للمطربة أم كلثوم، فطلب من والدي إخفات صوت المذياع، ظنّا منه بأن صاحبة الصوت هي أم كلثوم، ليكتشف بعدئذ موهبتي التي أثنى عليها كثيرا، غير أنه نصحني بمزاولة تعليمي، خصوصا وأن سنّي آنذاك لم يكن يتجاوز عتبة الـ12 ربيعا''.
''لو لم أكن فنانة لكنت طباخة أو رائدة فضاء''
اعترفت فنانتنا في سياق حديثها، بالصداقة التي تجمعها مع البيت وخصوصا المطبخ، حيث أوضحت ''أفضل البقاء في البيت كثيرا، كما أنني أعشق الطبخ لحد الثمالة، فأنا ماهرة في تحضير الأطباق التقليدية والعصرية، لذا لا تستغربوا يوما أن أطلّ عليكم بكتاب خاص بالطبخ. ولكن فيما يتعلق بالحلويات فـ''خاطيني الفاطو''، أنا ماهرة إلا في الطياب والعجين''. وعن قصتها مع عالم الفضاء، فهي تعود إلى حلم لطالما راودها وهي تلميذة بمقاعد الدراسة، مسترسلة: ''كم تمنيت أن أكون رائدة فضاء أو باحثة في العلوم الدقيقة، ولكن الحمد لله على كل شيء، فخبرتي في الحياة أكسبتني شهادة تضاهي شهادة الدكتوراه''.
''براءتي وراء تعرّضي للخيانة''
ككل امرأة حساسة ومرهفة، وككل فنانة لها حياتها الخاصة وأسرارها الشخصية، تقول مضيفتنا: ''لقد حاولت نسج خيوط علاقات حب عدّة، لكن جلّها باءت بالفشل، وآخرها كانت مع شاب جزائري (وْليد الأبيار)، إلا أن الحظ لم يسعفني للظفر به، وهو ما جعلنا ننفصل منذ فترة وجيزة، بعد قصة حب عمّرت أربع سنوات''.
وعلى وقع بعض النغمات والكلمات التي استحضرت من خلالها رائعة ''مابقاش أنا'' للفنانة أصالة نصري، تأسّفت ''فلة'' كثيرا على ''الزّهر لّي ماعندهاش'' مع الجنس الخشن، غير أن أملها في الحياة مايزال دوما قائما، خصوصا وأن الحب بالنسبة إليها هو أعظم ما في الوجود، مردفة: ''لقد تعرضت لخيانات عديدة، حاولت النيل مني والقضاء على آمالي وطموحاتي، ولكن هيهات يا جبل ما يهزّك ريح، فأنا من مواليد برج الثور ومتمسكة بقرنيه القويّتين إلى أن أصل يوما ما إلى برّ الأمان''.
''وردة الجزائرية لم تعترف بي يوما''لحد الساعة، لم تجد مضيفتنا التي كانت تجيب على أسئلتنا ببراءة الأطفال تارة، وحنكة ودبلوماسية السّاسة تارة أخرى، تفسيرا أو جوابا شافيا للبرودة التي تضمرها لها المطربة وردة الجزائرية، بالرغم من العلاقة الوطيدة التي كانت تربطها بوالدها عبد الحميد عبابسة ـ رحمه الله ـ خلال بدايتهما الفنية التي وقعّاها معا في كباريه ''طمطام'' بباريس. خصوصا إذا ما علمنا، أنه إثر الزيارة التي قادت وردة إلى أرض الوطن بعد غياب طويل، سارعت ''فلة'' لملاقاتها بباقة من الورد، عربونا منها على محبّتها الخالصة واحترامها الكبير لها، مواصلة: ''لم أستوعب بعد الدوافع الكامنة وراء تجاهلها لي وعدم اعترافها بلقبي كسلطانة الطرب العربي، فهي لا تذكر اسمي حتى في البرامج التلفزيونية التي تشهر فيها عن أسماء قريناتي، وتشيّد فيها بأصواتهن ومواهب من هنّ أقل شأنا منّي، ولكن هذا الأمر لن ينقص إطلاقا من شهرتي، ولن يغيّر بتاتا من نظرة الجمهور لي، فأنا راضية كل الرضا ومقتنعة كل القناعة أنني الوحيدة التي تستحقّ لقب سلطانة الطرب العربي''.
''السلطات المصرية أهانتني لأنني جزائرية''
بألم شديد ووجع ينخر كبرياءها ويهزّ كل شعرة من جسدها، سردت لنا ''فلة'' بعض المطبّات والعقبات التي اعترضت مسيرتها الفنية، ولعل من بين أهم المواقف التي ماتزال راسخة في ذاكرتها، ما لقيته خلال السنوات الماضية على يد السلطات المصرية، التي زجّت بها في السجن، وذلك لا لشيء سوى ـ حسب محدثتنا ـ ''لأنني أحمل الجنسية الجزائرية، التي لن أطالب بغيرها ما دمت على قيد الحياة، فأنا جزائرية وأفتخر أيّما فخر بهوّيتي، التي ارتوت بدماء مليون ونصف مليون شهيد، وعليه لن أروي تفاصيل هذه القضية التي يعلم بها العام والخاص، والتي لن تثني يوما من عزيمتي، بل بالعكس لقد زادتني قوة وإصرارا للمضي قدما بالأغنية الجزائرية، وإيصال صوتها إلى أبعد نقطة في هذا الكون''.