من قصص عباس بتاوي
القصة الخامسة:
كنت على رأس العمل اعمل مساءا في الايام الاولى من ذي الحجة فدخل مكتبي احد الزملاء بقسم اخر وبرفقتهم شاب في القد الثالث من عمره وقال لي :يا شيخ قريب لي عمره اربعين سنة توفي خارج المملكة يوم الثلاثاء وسنصلي عليه فجر يوم الخميس في الخامس ليلة السادس من ذي الحجة اي في اواخر ذروة قدوم الحجاج الى المملكة وهذا اخاه يا شيخ ونحن مسافرين على اول رحلة لإحضاره ونريد منك يا شيخ ان تكون بانتظارنا في المطار بعد الانتهاء من جميع الاجراءات الخاصة بشحنة الى السعودية في هذه البلدة وسوف نتصل بك من المطار لنخبرك عن الرحلة وموعدها لتقوم بتجهيزه، قلت: ان شاء الله وفي اليوم الثاني سألت موظف الشحن عن وصول رحلة رقم كذا من دولة كذا عليها الجثمان كذا، قال: دعني اتأكد من البرقيات الواردة في مثل هذه الرحلات ثم عاد وقال: نعم يا شيخ المعلومات صحيحة فتوجهت الى هناك وفعلا رأيت الكثير من اهل الميت بانتظاره وما هي الا دقائق ووصلت الطائرة في موعدها المحدد وانزلوا جثمان الميت باسعاف المطار داخل تابوت حتى البوابة ثم ادخلوه الى سيارتي فتوجهت به الى المنزل اخاه بجدة حيث كان بعض الاخوة بانتظارنا هناك، وفي عجلة قام الاخوة باحضار خشبة الغسل من اقرب مسجد وتجهيزه مكان الغسل والكفن وطلبت من الاخوة انزال التابوت وبه الجثمان من السيارة وفتحنا التابوت واخرجنا الميت منه ووضعناه على خشبة الغسل ووضعت سترة الغسل عليه لتجريده من ملابسه وكان اخونا بالله ممتلئ الجسد وغسله كان سريعا لم نصادف اي عقبات ونواقص في تجهيزه وحملناه على خشبة النعش وطيبناه وكفناه وادخلناه مجلس المنزل وكانت الساعة تشير الى الواحدة صباحا ويحضر مرافقيه من المطار وشاهدنا رحميه نقف خارج المنزل ظنا اننا ننتظره ودخل مسرعا مشمرا ثيابه لمساعتنا وسأل اين مكان الغسل؟ قلت:لقد انتهينا وهناك وقت كافي قبل صلاة الفجر وندفنه في مكة المكرمة على مسؤوليتي، والمتبع هنا يا اخوان يمنع الدفن في مكة المكرمة في شهر ذي الحجة فقط كما ذكرت سابقا لكثرة الحجيج والازدحام ويسمح ببقية السنه بشرط اجباري لا بد من اعطاء نقطة تفتيش الشميسي صورة من تصريح الدفن وشهادة تبليغ الوفاة وعدم وجودها يتم رفض دخول الجنازة الى مكة المكرمة وفي هذا الوقت هناك ثلاث نفقات تفتيش عند دخولك الى مكة المكرمة ولا بد ان نقف بها جميعا لاثبات الهويات سبحان الله نتوجه الى مكة وسيارات مرافقين الميت من اقاربه واصدقائه من الخلف وامام سيارة الاسعاف ونقترب من نقطة التفتيش الاولى ويتم سؤال هويات المرافقين من جميع السيارات من الامام والخلف ولا يتم سؤالي عما في داخل السيارة وكذلك في النقاط الاخرى وكنت انا ممسك بصورة تصريح الدفن وتبليغ الوفاة من نافذة السيارة للخارج ومع ذلك مررت من جانب رجل الامن ولم يستوقفني وياخذ التصريح حتى انه لم ينظر الي، ودخلنا مكة المكرمة قبل اذان وصلاة الفجر بساعتين واكثر تقريبا واذا ذهبنا بالجنازة الى الحرم المكي بهذا الوقت مبكرا فسوف يطلب منا رجال الامن عند بوابات الحرم بانزال الجنازة عند مدخل الحرم ويطلب منا الصلاة على الجنازة جماعة وحملها للمقبرة للدفن نظرا لشدة ازدحام الحجاج واهل الميت يريدون الصلاة عليه داخل الحرم فقال اخاه: دعنا يا شيخ نذهب بالجنازة الى منزل الوالد مع الوالده وزوجته هناك ليشاهدوه ويسلموا عليه حتى قرب اذان الفجر ندخله الحرم المكي وكان منزلهم قريب من الحرم فتوجهت الى المنزل وادخلت الاسعاف الى الفناء وقال اخاه:لا تنزله يا شيخ من السيارة فقط افتح الباب الجانبي واكشف الكفن عن وجه اخي وسوف ينزلوا افراد الاسرة للسلام عليه وتوديعه وهو داخل السيارة فقمت بذلك ثم اشاهد والده ينزل من المنزل وهو محمول على الاكتاف معانق من قبل معارفه ليس لكبر سنه ولكنه كان منهار القوى لهول المصيبة وادخلوه الى السيارة
وشاهد ابنه ممددا بكفنه ووجهه مكشوف وقام بتقبيل جبينه وهو يبكي بداخل هستيريا ينتفض جسده كاملا ولم يتحمل المنظر ووقع من طوله بداخل السيارة على رجليه وانزلوه من السيارة وهو منهار واردت ان اقفل الكفن كما كان بجنبي رحميه وهنا كانت العبرة يا اخوان وهنا الشاهد بالقصة يا اخوان رايت منظر رهيب جدا لم ارى مثله في حياتي ولا في مدة عملي في هذا المجال، ماذا رايت؟
رايت عينيه اليمنى تدمع بشكل غريب وكأنه يبكي دموع تخرج من عينه اليمنى وتسيل على خده وتبلل الكفن من تحت خده الايمن فقلت في نفسي :يمكن طول مدة بقاءه داخل الكفن او السيارة مع العلم ان مكيف الاسعاف كان على ااعلى درجة من البرودفقمت بمسح الدموع بثوب الكفن من ناحية راسه واقفلت على وجهه واذا برحيمه الذي شاهد المنظر
يقول لاخيه:هل شاهدت فلان وهو يبكي ؟ قال:لا، قال:اذهب وانظر اليه ثم حضر اخاه وطلب مني ان اكشف عن وجه اخيه قلت:لقد شاهدت قال:لا يا شيخ اريد ان يرى اخاه هذا المنظر ارجوك يا شيخ اكشف عن وجهه فكشفت عن وجهه للمرة الثانية وهنا كانت المفاجأة ا زالت الدموع تخرج من عينه اليمنى فقط وشاهد اخاه هذا المنظر فما كان الا ان يرتمي الى صدر اخاه ويقبله بجبينه وهو يبكي ويحضنه بقوة منظر مؤثر رهيب يا اخوان لم اشاهد مثله مدة عملي في هذا المجال بعد طول هذه المدة يموت يوم الثلاثاء خارج المملكة ويوضع في الثلاجة لمدة يوميين ثم شحن بطائرة في تابوت الى المملكة ونقوم بتجهيزه والسفر به الى مكة ونشاهد الدموع تخرج من عينه اليمنى فقط وهناك الفرق يا اخوان بين دموع العين وعرق الجسم ثم انتظرنا حتى الأذان الاول من الفجر قبل الذهاب به الى الحرم للصلاة عليه لماذا انتظرنا يا اخوان ؟
انتظرنا كما ذكرت سابقا لازدحام الحجيج في هذا اليوم الخميس واكثرهم صيام فاذا وصلنا في الجنازة مبكرا سيتم رفض دخول الجنازة الى الحرم لطول الوقت من قبل امن البوابة ويطلب انزال الجنازة بجانب المدخل والصلاة عليها جماعة مبكرا مع اهل الميت والحاضرين وحملها للدفن بسبب شدة الازدحام وعدم تأخير الجنازة بعد الاذان الاول توجهت الى المدخل الرئيسي لدخول الجنائز المؤدي الى باب السلام فاذا برجل امن المدخل يمنعني من الدخول فقلت له:معي الجنازة قال:اعرف لكن اين تدخل انظر امامك الحجاج لقد افترشوا الشارع حتى المدخل للصلاة قلت:اين اذهب بالجنازة؟ قال:اذهب من المدخل الرئيسي من الشارع العام بالغزة ذهبت مسرعا وقبل ان اصل الشارع العام يستوقفني رجل المرور يقول لي: اين تذهب؟ قلت: معي جنازة قال:انظر امامك الحجيج يفترشون الشارع مثل الجراد في زحف وتقدم الينا لن تستطيع الدخول لكن اقول لك إنزل بالجنازة هنا لحملها داخل الحرم
قلت:لا بد ان اذهب الى المقبرة قبل الجنازة لاعطائهم اصل تصريح الدفن وصورة تبليغ الوفاة قال:بعد انتهاء الصلاة وف ادعك تخالف السير للذهاب للمقبرة، يا اخوان فقط كلمتين مع رجل المرور من زجاج السيارة ثم اردت الخروج لفتح باب السيارة الخلفي لاخراج الجنازة فنظرت امامي فوجدت جنازة محمولة على الاكتاف تسير من امام السيارة وقبل ان انزل من السيارة قام الحجاج بفتح باب السيارة واخرجوا الجنازة وحملوها الى الحرم ويقول لي احد المرافقين للجنازة انه لم يستطيع حمل الجنازة سوى مرة واحدة من كثرة من يحملونها وصليت الفجر بجانب السيارة وبعد الانتهاء من الصلاة سمعت إمام الحرم وهو يقول الصلاة على الأموات يرحمكم الله، كان في ذلك اليوم ثمانية جنائز صلوا عليها بالحرم (5)رجال و(3)نساء صلوا عليهم اكثر من 2مليون مسلم وكانت الجنائز يذهبون بها المقابر الممتلئة والجنازة التي نحملها اول جنازة تدفن ويقوم بانزال الجنازة في القبر وتاحيد الميت وفك الاربطة وتغطية القبر بالتراب ووقف الكثير من المرافقين للجنازة وكان يغلبهم كثرة الحجاج بإحرامهم وقفوا على شفير القبر يدعوا للميت في الفجر المبارك من الشهر المحرم بعد ان صلو عليه ودعا له بالحرم اكثر من2مليون مسلم
انظروا الى هذا الاجر وهذه الميتة، اسال الله ان يتقبل دعواهم ويتغمد هذا الميت برحمته، ولكن ما قصة هذا الميت ؟
قمت بسؤال بعض الحاضرين عنه فكانت اجاباتهم من كلمتين فقط كذلك اقربائه نفس الاجابة، ماذا كانت تلك الاجابة؟كلهم اجمعوا ان هذا الشاب كان رضي بوالديه، فقط عندما سمعت الاجابة اولا تعجبت لكن عندما جلست مع نفسي تذكرت ان ذلك ليس بغريب على قول الله تعالى:((وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ))
واسأل الله لي ولكم حسن الخاتمة في الدنيا والاخرة.