وصولا إلى قلب الرجل عبر معدته، و قلب المرأة عبر آلاف الشعاب و الوديان و الحالات و المطالب.
و على طريق الربوة حيث كان يتمشى العشاق هروبا من العيون و الألسنة و تتسابق العربات إلى بيروت قبل اختراعات التقسيم الجيو-سياسي الحديث لبلاد الشام.
الطريق هو ذلك الاختراع الأزلي الذي تطور عبر العصور من حيث البنية و الشكل و مادة البناء و الحجم و الوظيفة لكنه شأنه شأن أشياء قليلة لم تتغير احتفظ بهدفه الأزلي و هو الوصل بين نقطتين. و من الطرق ما هو مباشر كالمستقيم، الذي عجز العقل البشري عن إثبات أنه أقصر الطرق بين نقطتين، فلجأ إلى الحيلة المعروفة واعتبره بديهية من بديهيات الرياضيات. و يبقى هذا قيد الجدل، فقد تطورت هذا الحالة مع تطور عبقرية الإنسان في إفساد حياته فأتى بنظرية أصبحت تحكم السياسة و العلاقات الاجتماعية و الاقتصادية و علاقات الأزواج بزوجاتهم و العشاق بعشيقاتهم تقوم على أن أقصر الطرق، للوصول إلى هدف ما، هو الخط الملتوي – و يا للعبقرية الدهماء. و بذلك تراجع المستقيم إلى مكانة ثانوية أمام الخط الملتوي، في جميع تلك العلاقات و في الفنون وعلم الهندسة التقليدية لصالح نظريات العمارة العضوية مع الأمريكي فرانك لويد رايت الذي وضع تصميم متحف نيويورك للفن الحديث و الانكليزي نيومان الذي وضع أسس الهندسة الحديثة التي لا مكان للخطوط فيها.
و أضحت الطرق اليوم ، نظرا لانتشارها و ضرورات الانتقال و الحركة و بفضل التقدم التقني، تدعى شراييناً، و هو أمر يغريني أيضا بإطلاق اسم الطرق على شرايين القلب و الجسم، و هذا يعطي أهمية أخرى للطريق فهو هنا ينقل الدم و معه الأوكسجين، وقود الجسم و سر الحياة، إلى أنحاء الجسد المختلفة و التي منها اليد، و على هذه خطوط تختلف من شخص لآخر، يدعي البعض أن حياة الإنسان تسير وفقا لها و بهذا تكون نوعا من الطرق. و من الطرق المشهورة في الجسم البشري الطرق الصفراوية التي تخرج من الكبد و يرى الطب أن أمراضها تصيب النساء أكثر من الرجال.
و قد اعتاد الطريق حتى عصر العربة البخارية مرورا بتلك التي يجرها الحصان إلى أن وصل إلى عصر القطار و القطار السريع و السيارة و الدراجة أن يمر عليه الإنسان و الحيوان واحدا خلف الآخر إما مطاردا أو مستخدما. و اليوم تعددت أنواع الطرق و أصبحت موضوعا واسعا من مواضيع الهندسة يدرس في الجامعات.
أما العلاقة اللغوية بين الطريق و الطارق فهي وثيقة على ما أعلم و كلاهما مشتق من نفس المصدر.
و الطارق هو السائر ليلا و هو أيضا من يسير على الطريق. و الطوارق هم قوم يتخذون من شمال أفريقيا موطنا لهم و هم قبائل بدوية قريبة في أسلوب حياتها من العرب البدو يعيشون في الصحراء الأفريقية بين الشمال العربي و الجنوب غير العربي. و قد أتى اسمهم كما يشير الباحثون من وادي تاركة في ليبيا حيث ينحدرون. و طارق بن زياد هو من مشاهير الطوارق (البربر) و هو القائد العربي الذي فتح الأندلس حيث أقام المسلمون من عرب و بربر لثمانية قرون خرجوا بعدها يتلمسون طريق العودة بعد أن دب في أوصالهم الطمع و الخيانة و الانحلال و تآكلت أمجاد دولتهم الأموية و ما أتى بعدها من دويلات.
و من الطرق المشهورة في التاريخ طريق الحرير و هو عبارة عن مسار بري في العصور القديمة والوسطى، يبلغ مجموع طوله 6400 كيلو متر، تم تسميته بذلك نسبة الى بضاعة الحرير التي كانت تأتي من الصين إلى أوروبا مقابل سلع أخرى. و طريق الحرير كان يمتد إلى الغرب عبوراً بصحراء غوبي وسمرقند وأنطاكية حتى موانئ البحر المتوسط في اليونان وايطاليا والشرق الأوسط ومصر. وكان لهذا الطريق الأثر الكبير في ازدهار الحضارات القديمة كالرومانية والصينية والمصرية والهندية. أطلق الجغرافي الألماني فريديناند فون ريتشتهوفن اسم “طريق الحرير” على هذا المسار. لكن أثر هذا الطريق كان أعظم من نقل الحرير و العطور فقد كانت الأفكار تنتقل عبره بين الأقوام المختلفة ما ساهم في تطور البشرية تطورا عظيما.
و طريق رأس الرجاء الصالح هو ذاك المسار الذي يدور حول افريقية وصولا إلى المحيط الهندي و شبه القارة الهندية و قد كان أول من أبحر فيه هو البرتغالي بارتولوميو دياس عام 1488 مدشناً حقبة من التجارة الأوربية مع الشرق و علاقة قامت على سيطرة الأول على الثاني و على موارده و سبل عيشه حتى عهد قريب ما كلف الهند مثلا قرابة قرن و نصف القرن من الكفاح بالطرق السلمية لانتزاع حريتها من براثن الحاكم البريطاني. و هكذا أصبحت طرق التجارة موضع نزاع و تنافس و مبررا لحروب كثيرة أفضت بالبشرية إلى الكراهية و القتل و الخراب.
و من مرادفات الطريق السبيل و الدرب و الشارع و الممر و المسار. و من الدروب المشهورة درب التبان (أو اللبانة) و هو اسم المجرة التي ينتمي إليها نجم الشمس الذي هو مركز المجموعة الشمسية التي تنتمي إليها الأرض و تدور حولها وفق مسار إهليليجي ما يخلق تتابع الفصول الأربعة. و في دمشق كانت حتى عهد قريب تنتشر سبلان المياه، و مفردها سبيل، و هي صنابير مياه عذبة كانت المصدر الأساسي لمياه الشرب لأهل المدنية حين كان عددهم بضع عشرات من الألوف إلى أن أصبح بضع مئات منها، إلى أن تلاشت أهميته مع دخول المياه إلى كل بيت و مع تضاعف أهل المدنية إلى بضع ملايين لا ينعمون اليوم بهذا الماء العذب و لا بالهواء النقي و لا الهدوء الذي آب إلى غير رجعة مع سقوط طرق العيش البسيط. لصالح انتشار الطرق السريعة و الشوارع العريضة التي تعج بالسيارات و البسطات و المحلات و الخائفين و الفارين و المهمومين و المنهزمين و الهلعين و الحمقى و المجانين و الأنانيين و الأشرار و قليل من الطيبين و العاقلين.
و قد استغرقت وقتا طويلا لأعرف أقصر الطرق إلى قلب أولى حبيباتي، و لم يتم لي ذلك إلا بعد فوات الأوان، مما اضطرني إلى نسيانها، و انتظار واحدة تأتي بعدها، و عندما أتت الثانية، اتضح لي بعد وقت طويل، أن الطريق إلى قلبها طويل و مكلف ومحفوف بالأخطار، التي لا أمتلك الشجاعة لمواجهتها، فهجرتني إلى أن التقيت بحبيبية ثالثة كان الطريق إلى قلبها و قلب أمها سهلا و جميلا هي اليوم أم لوالدي القادم بعد أسابيع.
والطريق جمعه طرق – و الطرق الصوفية هي أول ما يتبادر إلى الذهن هنا. و من هذه الطرق الرفاعية و القادرية. و الصوفية هي فلسفة انتشرت في العهود القديمة و لا زالت حتى اليوم. و قد حاربتها الدعوة السلفية و أطاحت بوجودها في الجزيرة العربية و كثير من الحلقات ما خلق شرخا يضاف على أولوف قبله و كأننا بحاجة إلى ما يزيد في تفرقتنا نحن أبناء الضاد.
و لبعض الطرق مكانة في نفسي، كما لبعضها مكانة في نفسك أنت، فطريق "درب السكة" هو ذاك الطريق الذي كان يسير في قريتي تحت ظلال أشجار الحور و الجوز و الصفصاف و الدلب ملتصقا بنهر بردى – شريان الحياة، فيلتوي إذا ما التوى و ينحني إذا ما انحنى و يهبط إذا ما هبط، و كان مرتعا لطفولتي و شبابي أنا و جيل من الحالمين. كنت أنفق عليه الوقت أراجع دروسي في أيام الخريف و الربيع مع صبية من جلدتي، أو أقتفي أثر جدتي تهرع إلى البستان في "حقل فرج" تحمل الزوادة لجدي و أخوالي، و أنتظر القطار القادم من دمشق يحمل في عرباته المتنزهين، و الموظفين، و البضائع و الحياة. و على ذاك الطريق بحت لصديقي باسم حبيتي الأولى و التقى هو بحبيبه الأولى، و اكتشفت ميولي إلى رسم الطبيعة و منذ ذاك و أنا أرسم طريقا في كل لوحة، واكتشفت نفوري من السياسة و كرهي للمتحذلقين و المنافقين و المنتفعين و أصحاب الأصوات الخشنة، و المتذاكين و كل من لديه شعر جميل. أما "طريق النقرة" فهو ذاك الدرب الترابي المتعرج الشاق الذي كنا نسير عليه وصولا إلى أعالي جبل "الهواد" حيث الهواء العليل و كروم التين و الزيتون و العنب، و كان على رحلتنا أن تبدأ مع الفجر، لنتمكن من العودة قبل منتصف النهار هروبا من شمس آب الحارقة. ويذكرني هذا الدرب، بخالي أبي أحمد الذي علمني كيف اشرب الماء من "عين شهدا" التي جفت اليوم، و كيف أقطف التين، و العنب، الذي أماته الجفاف و الإهمال اليوم، و كيف أحيِِي الناس بحرارة لم يستطع رغم ذلك توريثها لي. و في محاولاتي العديدة لاكتشاف ما تعلمته على هذا الطريق توصلت إلى أنني، مثل الكثيرين، تعلمت الصبر و المواظبة، إلى أن أصبحت أعتمد على السيارة في جميع تنقلاتي، و لم ينفعني كل هذا الصبر اليوم في تحمل ضغوط قيادة السيارة في شوارع دمشق – جعلها الله أكبر المصائب.
و لأنني قررت منذ حين أن أفعل ما تفعله النعامة و أدفن رأسي في الرمل و لا أشاهد أو أستمع إلى الأخبار، فلن أستطيع ، الحديث عن الطريق إلى القدس، أو غزة أو يافا أو الجليل ناهيك عن بغداد و الموصل و الأنبار، فعذرا فلسطين و عذرا بلاد الرافدين، فأنا من عصر لا يستطيع أن يقدم إليكما أي شيء، أي شيء.