قراءة في رواية "نساء المنكر" للكاتبة السعودية سمر المقرن ..جدلية قوة الضعف وضعف القوة
بقلم: سفيان عبد الكافي :
لم تكن رواية "نساء المنكر" لسمر المقرن هي الأولى من الروايات التي تتهجم دون حياء و من خلال صورة الغلاف الغريبة, امرأة مبرقعة ببرقع وكأنها من قبائل الطوارق بالصحراء الإفريقية واللون الرمادي والبني المزدحم يجعلك تتساءل ماذا تريد منك هذه الرواية أو بالأصح هذا الكتاب.
عنوانه مستفز جدا, بدأت أبحث في ذاكرتي عن هذا الاسم, في الحقيقة إني لا أعرفها ولم أقرأ لها شيئا من قبل غير هذا الكتاب الذي صادفني, وجدتني فقط أغطس بكل كياني في هذه الرواية وكأني أسبح في ماء لذيذ دافئ زمن القر الشديد, هكذا تجد نفسك وقعت في شرك هذه الكاتبة فتأسرك من أوصالك في هذا الكتاب, وكلما أوغلت في الرواية تحس وكأنك لا تقرأ لامرأة أو كاتبة من السعودية بل تقرأ لكاتبة من المغرب العربي ورغم أن الكاتبة تتحدث عن نساء السعودية وآهاتهن ومعاناتهن.
منذ الوهلة الأولى تعانق نمطا أدبيا تحس أنك تعرفه أو كنت قد تذوقته وتلذذت به كأنك أمام أحلام مستغانمي في إحدى اغتيالاتها لك, تمرد عن الخطوط الحمراء الأدبية الموضوعة في أدب المرأة عموما في الشرق, وهذه الخطوط لا يجب للمرأة أن تتجاوزها عندما تكتب, وطبعا في المجتمع العربي يبقى الدين والجنس والسياسة أسوار مثلث سجن الإبداع الروائي.
عندما تقرأ رواية "نساء المنكر" تستغرب أن تكون الكاتبة هي امرأة سعودية, فجرأتها لم نعهدها في كاتبات المشرق وخاصة شبه الجزيرة العربية.
لم تكن تسرد من خلال حياتها أو مغامرتها في الحب ما عانته أو ما حملته من أحزان وآهات وآلام بل كانت طوال سردها لرحلتها الذاتية في سماء التمرد والحب تنقل معاناة المرأة السعودية من خلال هذا "المنكر" اللعين الذي يطاردها حتى في أحلامها وفكرها وتطلعاتها, هذا "المنكر" يكبلها وليس هذا "المنكر" إلا الحب والعاطفة, بغض النظر عن شرعية ممارسته وتسربه ودوافعه التشريعية وحدوده الثقافية, إذ قد تبدو لك الرواية إنها انتفاضة جنسية ولكنها في الحقيقة ثورة روح متفجرة تريد أن تفلت من عنق الزجاجة وختمها المعقود عليها منذ القدم.
تدخلك الكاتبة في أفكار جديدة وقيم فكرية مختلقة أو مخترعة تجمع التناقضات في كيان واحد وتقرب الأضداد لبعضها فتزيد لهيب الثورة توهجا, مفاهيم غريبة, قوة الضعف من جهة وفي المقابل ضعف القوة, كيف تتدخل هذه المعادلة عقلك وكيانك, وكيف تأسس لها "أن تكون قوة وتمارس بها ضعفك فإنها منتهى الضعف وأن تكون الأنثى ضعفا وتمارس به قوة فقد علت القمة".
إنها تتحدث عن القوة الجسدية للرجل وضعفه الجنسي والذي يخجل منه ويداريه, وفي الجانب الآخر نرى الضعف الجسدي للأنثى وقوتها الجنسية التي تصهر بها الرجل وتذيبه وتقتله وتتسلط بها عليه, في تلك اللحظات يشعر الرجل بضعفه وحقارته أمامها فلا يجد من بد إلا من أن يذلها ويتسلط عليها وأول مظاهر هذا التسلط هو التعذيب الجنسي وذلك بأن يشبع غرائزه ولا يشبعها فينتفض وينسحب عنها عندما تبدأ اللذة عنها, لهذا نرى أنها تسوق إلى مفهوم جديد للرجل الأول في حياة المرأة السعودية أو المرأة عموما أو من تعيش مثل ما تعيشه هي, فالرجل الأول ليس أول من فتح جسدها ولكن الرجل الأول هو أول من فتح قلبها وصدرها بقطع النظر عن شرعية العلاقة, وهناك مفاهيم غريبة قد لا نقبلها ولكنك في خضم هذه الرواية نتقبلها وببساطة تقنعك وتجعلك تتعاطف معها.
لقد ركزت الكاتبة على هذا التعذيب الجنسي لدرجة أنها بنت روايتها على هذا النسق التعذيبي وكأن في ذهنها أن فقط الرجال هم من سيقرأ هذه الرواية, فتجلبك بتبرج أسلوبها الرائع وألفاظها الجميلة والوصف الدقيق وتلك الحركة التفاعلية الذاتية في نفسها وتلك الإيماءات وهذا الصراع الفكري والحكم الغريبة, فتزرع في ذاتك متعة ذات نسق تصاعدي كما هو الشأن مع كتابات أحلام مستغانمي حتى أن الكاتبة ذكرتها وعرجت على رحلتها وأنها ربما تود أن تعيش في لندن ما عاشته أحلام في باريس, فأحلام كانت لها أحلام في باريس وهي تريد أن يكون لها قسط من حياة في لندن.
إنها تعبر معك على بساط المتعة وتعلو بك رويدا رويدا وتوشك بمفاهيم غريبة وغير مقبولة ولكنك أنت أيها الرجل الشرقي عليك أن تقبلها وليس لك من خيار آخر فلو لم تقبلها تقوم عنك.
"لا أريد تحطيم الصنم العلماني... ولا أريد قراءة أي جولات جديدة لمحمد الشريف في معاركه ودفاعه عن النظام السياسي الإسلامي, لا أريد قراءة خواطر محمد الشعراوي التي كنت أبحث فيها عما سرقه منا التشدد الوهابي من حياتنا. لست الآن في هذا الوارد. سأتوجه إلى أحلام مستغانمي, سأتوجه إلى الحب, وإن كانت هي قد وجدته في باريس فأنا وجدته في لندن على زاوية شارع (الكوينزوي) الذي ساقني الفضول إليه".
بهذه الكلمات تسير معك على بساط المتعة وترتقي بك إلى أعلى درجاتها حتى تصل بك إلى منتصف الطريق أو منتصف الرواية عندما تكون راكبا معها على بساط المتعة وهو في عنان السماء. وبكل هدوء وبكل سادية تسحب البساط من تحتك لتخر من تلك السماء العالية التي حملتك معها إليها ليتحطم كيانك على أرض الواقع التعيس والمر, وهكذا تقصيك.
إن تغير النمط الروائي فجأة عند الكاتبة وكأنها ليست هي الكاتبة وكأنك أفقت من حلم جميل لتجد نفسك في كابوس مرعب, يسقط النسق وتتسارع الأحداث المهمة والهامشية ويتيه تفكيرك وتكثر الشخصيات وتمر أمامك كالأشباح وأنت ساهم وأهم لا تعرف ماذا يحصل.
نقطة ضعف هذه الرواية هو هذا التحول الفجائي في النمط والنسق, تباين كامل ومتضاد, وكأن الفكرة الرئيسية التي كتبت من أجلها الرواية غلبت الكاتبة فلم تتحمل الصبر عليها وأحست أنها تريد أن تقول كل شيء وبسرعة قبل أن يلفظ هذا الساقط أنفاسه فيموت وينجو بموته, فأخبرت عن الحال قبل تفاعل الفعل فتجنت على القارئ ولم تترك له حتى حرية أو متعة واكتشاف المعاناة, فجاءته بها حاضرة في قوالب جاهزة كالأكلة السريعة المعلبة فغابت عنها الروح والجمال, لهذا تحس في الشطر الأخير من الرواية وكأنك تقرأ في جريدة معينة عن أخبار المحاكم والقضايا وحياة الناس ولست تقرأ في رواية أدبية.
إن هذا النمط الروائي أضر بالبناء الروائي العام في هذه الرواية والتي رغم هذا هي رائعة بكل معنى الكلمة وتستحق القراءة وتتبع ما تعرضه من قضايا لأنه من المسكوت عنها وهو سرطان خطير ينهش رمز كيان الأمة الإسلامية وخاصة في السعودية معقل الديانة الإسلامية.
لقد كانت الرواية في عشرة فصول الخمسة الأولى متعة والخمسة الباقية إقصاء وعذاب ولا أعتقد أن الكاتبة تعمدت هذا البناء التعذيبي إنما جاءت هكذا مصادفة أو ربما هذا ما جال في خاطري وما رأيته وقرأته وقد يكون هناك من رأى أشياء أخرى, فتسلط الكاتب على القارئ هو أشد ما يتعب في الأدب.
حقا إن "سمر المقرن" بقدر ما برعت في حياكة البداية بقدر ما فشلت في صياغة النهاية وخاصة عندما هدمت الفكرة التي بنت عليها الرواية كاملة والفكرة الغريبة التي تقول إن الرجل الأول في حياة المرأة...., وهذا ما لم نره في النهاية عندما رأت "رئيف" البطل والطرف الثاني في الرواية يتزوج بأخرى " أقبل العريس لتخرج مع خطواته روحي. اقبل رئيف ليرحل إلى الأبد".
هكذا تسقط الكاتبة في كيانها الأنثوي النسوي الفزيولوجي الطبيعي وتعبر بهذه الجملة القصيرة وتسقط علينا النهاية إسقاطا وتهد كل شيء بنته من خلال النسق الروائي وما حفرته في أعماقنا وقلوبنا.
إن رواية "نساء المنكر" للكاتبة السعودية "سمر المقرن" رواية جديرة بالقراءة والمتابع فيها متعة وفيها نسق روائي جميل تنقل لنا صورة لا نراها كثيرا في الأعمال الأدبية وهي تنقل لنا المسكوت عنه أو ما يحاولون أن يخفوه.
إنها رواية جسورة ورواية شجاعة أنهتها بتساؤل عن القيمة العقابية ومرجعيتها ومن أين أتت هذه السبع مائة جلدة وأربع سنوات سجنا في حق جريمتها وليس لها من جرم إلا الحب؟.