وماذا بعد

د.عبدالحميد الشايبي : و مـاذا بعـد !!.

نعيش نحن البشر اليوم في عصر السرعة و التغيير المستمر الذي طال جميع نواحي و مجالات الحياة ، حيث أصبحنا نركب الطائرات النفاثة و البواخر و القطارت السريعة ، بعد أن كان أجدادنا يسافرون على ظهور الإبل و الحمير ، و كان من يملك حصانا ذاك الوقت بمثابة من يملك طائرة نفاثة أو قطارا في وقتنا الحاضر . و رغم أننا اليوم نركب الطائرة من ( طرابلس ) لنصل إلى ( نابولي ) في دقائق ، إلى أننا لا نكف عن الشكوى و التذمر لأن الضباب و عواصف المتوسط أخرت وصولنا عشر دقائق ؛ و حتى عندما نسافر غدا بالصواريخ الفضائية إلى القمر أو المريخ ، فإننا سنكون أكثر عجلة و مللا و تذمرا ، و عندها سنقول :

ما هذه الصواريخ " الصكّة " البطيئة ! رحلة من الأرض إلى المريخ تستغرق ساعة كاملة ؟! أوه .. ( its too much ! ) أيعقل هذا ؟ ألا يدرك المسئولون في أمانة المواصلات الفضائية قيمة الوقت ..؟ عندها ستتضاعف قيمة الوقت بالفعل ، و ستكون الساعة الواحدة كافية للقيام بدورة حول العالم ، و سيكون الأسبوع مهلة كافية لجولة في أرجاء المجموعة الشمسية ، و ستزداد الإمكانيات ؛ لكن رغم ذلك سيتضائل الشعور بالسعادة و القناعة ، و سيزداد شعورنا بالنقص و بالفراغ الروحي ؛ لأنه كلما زادت الإمكانات زاد الطمع و الجشع ، و كلما زادت السرعة زادت العجلة و التسرع و التهور ، و كلما ازداد الترف ازدادت الشكوى و التذمر ، و بالتالي سيزداد الشعور بالتعاسة و بالملل ، و سيكثر التحاسد و التصارع على من يملك أكثر ؛ و هذا شأن المكاسب المادية المجردة ، فمن يملك سيارة واحدة سينظر بحسد لمن يملك سيارتين ، و من يملك سيارتين سينظر بجشع لمن عنده طائرة ، و من يملك طائرة يكاد يموت حسرة و كمدا لأن ( فلان الفلاني ) عنده مطار ، و من عنده زوجة جميلة يتركها و ينظر لزوجة جاره ؛ و في النهاية نسرق بعضنا ، و يكره بعضنا البعض بسبب الحسد و الحقد ؛ ثم نلقي بقنبلة ذرية على كل هذا الرخاء و النعيم ، و نشعل نار الضغينة في قلوبنا ، ثم نصرخ مطالبين بالعدالة الإجتماعية ، و يحطم الطلبة الجامعات ، و يدمر العمال المصانع ، و الحقيقة أن الفوضى و التمييز و العنصرية هي الدوافع الأساسية وراء كل هذه المأساة ، لذلك لن يتساوى الناس أبدا و لن يتحقق السلام على الأرض ، لأن من يملك هكتارا من الأرض سينظر بحسد لمن يملك هكتارين ، و سيحتج و يثور ، و سيبيع الهكتار ليشتري بثمنه مسدسا ليقتل جاره !! و النتيجة في النهاية مزيد من الفقر و المرض و الجهل و الوحشية .. مزيد من الجشع و النهب و التمييز .. مزيد من القتل و الإرهاب .. مزيد من الحروب و الدمار ... إن أزمتنا مع أنفسنا أغنياء كنا أو فقراء هي أزمة أخلاق بالدرجة الأولى ، فانظر إلى أحوالنا و ما آلت إليه ؛ لقد حصدنا المدنية التي أقمناها ، و هدمنا كل ما بنيناه بآلات الدمار التي ابتكرناها سعيا وراء السيطرة و
التعالي على الآخرين و استغلالهم و سرقة ثرواتهم ؛ و لذلك ستقوم حرب عالمية ثالثة و رابعة و عاشرة ، و لن تنتهي الحروب حتى تفنى البشرية ، أو تقوم الساعة .
إذا .. نستنتج من ذلك أن كل ما أحرزه الإنسان من تقدم هو في الواقع تقدم شكلي مظهري خادع ، و
أن ما كنا نظن أنه مدنية و تطور ما هو في حقيقته إلا قشور زائفة لحضارة إنسانية لم تولد بعد ...
إن التقدم الحقيقي ليس في أن تنمو الأدوات .. إنما في نمو و تحضر الإنسان ذاته و إدراكه أن السعادة الحقيقية موطنها القلب و ليس الجيب ، فالسعادة تنبع من الضمير ، و من علاقة الإنسان الطيبة بنفسه و بربه ، و بالتالي مع الآخرين ؛ لذا فلا تستغرب أن ينتحر المليونير صاحب الأطيان و الأملاك و الأرصدة المكدسة في البنوك ، في حين تجد الزاهد الذي يعيش على الكفاف يضيء وجهه بسكينة داخلية لا حد له .. و يعيش في سعادة غامرة مصدرها ثقته بنفسه و بالله ، و إيمانه العميق بالحق ، و بأن لهذه الحياة قيما راقية و رائعة ، و أنها لم تخلق لتدمر بجهل البشر و حماقاتهم ..
إن الملكية الحقيقية هي في أن لا يملكك أحد ، أو شيء ، و ألا تستولي عليك رغبة أو تسوقك نزوة
؛ فالملكية الحقيقية هي في أن تكسب قيراط محبة في مملكة القلوب كل يوم ...

وماذا بعد

وماذا بعد :: تعاليق

وماذا بعد

مواضيع مماثلة

مواضيع مماثلة