قبل ثلاثين عاما، انتصرت ثورة إيران الإسلامية بشعار "الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظّـلم"، وأدخلت المؤسسة الدِّينية الشيعية عهْـدا جديدا لم تألفه من قبل..وذلك، عندما تصدّى أحد مراجِـع هذه المؤسسة، وهو الإمام الخميني الرّاحل لقيادة المجتمع، مطالبا بتأسيس حكومة إسلامية، ليخرج بذلك علماء الدِّين الشيعة من سرادِيب النّجف وقُـم، حيث كانوا مشغولين بمسائل المُـتعة والحيض والنفاس، إلى الاندكاك المباشر بالناس، للتعريف بأفكار بدت غريبة وجديدة، مثل "ولاية الفقيه" و"قيادة العلماء للحكومة" والمواجهة المباشرة مع "الاستكبار والشيطان الأكبر والقوى السلطوية"..
ومنذ انتصار الثورة في الثاني والعشرين من شهر "بهمن" (حسب الروزنامة الفارسية) المصادف للحادي عشر من فبراير 1979، والتاريخ يحتفظ للخميني أنه كان أول "رجل دين" شيعي نجح في ترجمة ما كان مدفونا في بطون الكُـتب أو مركونا على الرفّ عن فِـكرة انتظار الإمام الغائب المهدي المنتظر إلى أرض الواقع، بما أصبح يُـعرف بـ " الانتظار الإيجابي " الذي يمهِّـد - حسب اعتقادات الشيعة الامامية - لظهور " الذي يملأ الأرض قِـسطا وعدلا بعدما ملِـئت ظُـلما وجُـورا "
قبل الإمام الخميني، كان فقهاء الشيعة يتجنّـبون الخوض في مسائل عن السياسة والحُـكم، وأصبح معظمهم – إلا القلة – غير مُـكترثين بنظرية ولاية الفقيه، رغم أنهم يُـؤمنون بها بدرجات أقل وصلاحيات محدودة، وكان همّـهم ينصَـبّ على إقناع جمهور المقلّـدين لهم بوجوب ما يسمونه تطهير ذِممهم عبر دفع الخُـمس والزّكاة. وكان وُكلاء هذا المرجع أو ذاك يجتهِـدون كثيرا في الوصول إلى القُـرى والأرياف، لتعليم الناس الصّلاة والصيام ومسائل شرعية تتعلّـق بهاتين الفريضتَـين، كالوضوء وقواطع السّـفر، ولكنهم كانوا يركِّـزون كثيرا على تعليم عوام الشيعة كيف يعيّـن كل واحد لنفسه رأس سنة مالية، لحساب الخُـمس والزكاة وإخراج الخُـمس - بشكل خاص - وهو قِـسمان: سهم السّادة وسهم الإمام الغائب، الذي يذهب الكثير منه للوُكلاء أنفسهم، ولا يصل من سَـهم الإمام المهدي، وهو كثير جدّا، للفقراء من طلاب العلوم الدِّينية، إلا النزر اليسير الذي لا يسد جُـوعا ولا يكسي عريانا..
وقبل الثورة الإسلامية، كان الإمام الخميني يُـقيم في النّـجف الأشرف بالعراق، حاضرة الشيعة العِـلمية قبل مدينة قُـم الإيرانية، وقد جاءها بعد نفيِـه من طرف الشاه رضا بهلوي إلى تركيا عام 1964، وكان طالبا في العلوم الدِّينية في النّجف يتلقّـى راتبا شهريا زهيدا جدّا رمقا، من المراجع البارزين الذين كانت تصل لهم ما يُسمى "الحقوق الشرعية" من الأتباع الشيعة المنتشرين في كافة أقطار العالم، وكان الخميني يدفع للطلبة راتبا شهريا يُـعادل ما كان يتقاضاه الموظّـف العادي الحكومي آنذاك، ليجعلهم يعيشون بكرامة، وكان يُعِـدّ نفسه لقيادة الثورة عبر إرسال "أشرطة كاسيتات" عن محاضراته المكيّـفة فقهيا، على طلاب ما يُعرف بـ "بحث الخارج" تحت عنوان "ولاية الفقيه أو الحكومة الإسلامية"، ليُـفجِّـر بالفعل تلك الثورة بالحشود البشرية الهائلة التي كانت تغطّـي شوارع طهران وباقي المدن في الأشهر الأخيرة من عام 1978، ويُـتوِّجها بإسقاط نظام الشاه الديكتاتوري، ويعلن نفسه حاكما لأول جمهورية إسلامية تتبنّـى المذهب الشيعي الإثنى عشري منذ عصر الغيبة (حسب التعبير الشيعي).
الدِّين والسياسة!ومع أن الخميني لم يكن راغبا، كما كان يبدو آنذاك، في التدخّـل في كل تفاصيل "الجمهورية الإسلامية" الفريدة التي أعلنها للإستفتاء العام، وأوضح مِـرارا من منفاه الباريسي في ضاحية نوفل لوشاتو، أنه سيتوجّـه - بعد سقوط نظام الشّـاه - إلى زاويته الدِّينية في مدينة قُـم ليُـشرف من هناك على حكومة يُـفوِّض صلاحياته في إدارتها للمتخصِّصين من غير المعمّمين، إلا أن الصِّـراع الذي اندلع في عهد أول رئيس منتخب "أبو الحسن بني صدر" مع طبقة المؤسسة الدِّينية القوية بقيادة آية الله محمد حسين بهشتي، والذي حُـسم بقرار صادَق عليه البرلمان في يونيو 1981 وأسقط بموجبه كفاءة بني صدر السياسية، دفع بالخميني إلى تغيير رأيه حول دوره في قيادة البلاد وأخذ يُـؤمن أكثر بأهمية السّماح لرجال المؤسسة الدِّينية في الانخراط المباشر في قضايا الحكم والإمساك، وبقوة، بمفاصل البلاد الرئيسية، لإضعاف من يُوصفون بالليبراليين الإسلاميين، خصوصا حركة حرية إيران بقيادة مهدي بازركان، رئيس حكومة الثورة المؤقّـتة، التي كان عيّـنها الخميني في الأول من فبراير 1979، فور وصوله إلى طهران.
أول الأخطاء!لعلّـها أول الأخطاء التي ربّـما تُحسب على تلك المرحلة، عندما انخرط طلبة العلوم الدِّينية في السلطة بكل ما فيها من إغراءات ومنافع، ما جعل الكثير منهم يتلوّث في قضايا فساد أضرّت كثيرا بسُـمعة الثورة الإسلامية وأدّت في الكثير من الحالات إلى انصراف جيل الشّباب (الذي تتشكل منه أغلبية السكان في إيران) عن الدِّين، وسجّـلت إحصاءات مراكِـز دينية مَـعنية بالصّلاة، تراجع نسبة كبيرة من الشبان عن أداء الفروض الدِّينية، ولتتفكّـك بذلك علاقاتهم مع المرجعية الدِّينية، وحتى مع الولي الفقيه (أي المرشد الأعلى للثورة الإسلامية)، وذلك في المرحلة التي تلت سنوات الحرب التي شنّها نظام صدّام على الجمهورية الإسلامية منذ الثاني والعشرين من سبتمبر 1980.
وكان العائدون من تلك الحرب المجنونة ممّـن تركوا مقاعد الدِّراسة للدِّفاع عن بلادهم، لا يجدون فُـرص عمل في الدوائر الحكومية، وكانوا يُـواجهون في الكثير من الأحيان، بعدم اكتراث وإهمال، وأيضا باحتقار من كِـبار المسؤولين الذين قدِموا إلى إيران حاملين شهادات عِـلمية من الجامعات الأمريكية وأصبحوا في الصف الأول والصف الثاني، واغتنموا فرصة عدم مشاركتهم في تلك الحرب ليعزِّزوا من نفوذِهم على حِـساب من كانوا يُلقبون بـ "أفراد التّعبِـئة".
الانفصامانخراط المعمّـمين في الحياة السياسية والمفاصل التنفيذية للبلاد بشكل واسع وكبير، كان يريد منه الإمام الخميني أن يدعم نظرية ولاية الفقيه و"قيادة المجتمع إلى الفضائل"، ومواجهة ما يُوصف بـ "الغزْو الثقافي الغربي"، غير أن تورّط الكثيرين من هؤلاء المعمّـمين في مُغريات "الدُّنيا" فيما هُـم يحثّـون الشبان على "الآخرة"، أدّى إلى انفصام واسع بين الحَـوزة الدِّينية وجيل ما بعد الثورة الإسلامية.
وتكرّس هذا الانفصام بعد وفاة الخميني في يونيو 1989، حين ظهر جيل جديد تشجَّـع كثيرا في طرح أسئلة صعبة وخطيرة عن مشروعية نظام الجمهورية الإسلامية بالنسبة لهم، مطالبين باستفتاء جديد على شكل النظام، من واقع أن الشبّـان الذين وُلِـدوا بعد انتصار الثورة وأصبحوا يافِـعين، لم يُـؤخَـذ رأيهم في اختيار شكل نظام "الجمهورية الإسلامية" الحالي، لأنهم ببساطة وُلِـدوا بعد الاستفتاء على النظام الذي جرى في الثاني عشر من أبريل 1980، ولذلك، فهُـم يطالبون بالتغيير.
وبعد ذلك الفوز السّاحق والمُدَوّي للرئيس السابق محمد خاتمي في الانتخابات الرئاسية عام 1997، عاد حبل الوِدّ من جديد بين نظام الجمهورية الإسلامية والأجيال الشابة، خصوصا الطلاّب الجامعيين، برغم كل الاتهامات التي تحمّـلها خاتمي خلال فترتيْـن رئاسيتيْـن، بأنه أشاع الانفلات القيمي في صفوف الشبّان.
لقد نجح الرئيس محمد خاتمي في إيجاد نوع من المصالحة بين الشبّان والثورة، كما نجح أيضا في إزالة الكثير من بُـؤر التوتر في علاقات إيران الإقليمية والدولية، والتي نمت أثناء فترة الحرب مع العراق. ونقل خاتمي بكفاءته وإخلاصه لنهج الإمام الخميني، الثورة الإسلامية إلى مواقع الدولة القوية في المنطقة وفي العالم، ما جعلها تحظى باحترام أعدائها قبل أصدقائها. وشهد عهده تراجُـعا ملحوظا في دعم إيران لـ "حركات التحرّر"، التي أغلق الكثير من مكاتبها في طهران، مفضِّـلا أن ينقل تجربته في الشفافية بين الحاكم والمحكوم إلى هذه الدول، لتنصِـف شعوبها وتتحاور مع منظماته المتعدّدة، بدلا من الإستمرار في المواجهة.
أعلن محمد خاتمي عن ترشحه رسميا لخوض الإنتخابات الرئاسية القادمة في يونيو 2009
قوة عالمية وإقليميةحصل خاتمي على قاعدة شعبية عريضة داخل البلاد، شملت مختلف الأطياف، دون أن يُـفرِّط بأصل نظام ولاية الفقيه، غير أنه واجه صعوبات جمّـة من منافسيه في تيار المحافظين الذين كانوا يتعمّـدون وضع العِـصِـي في عجلة حكومته لإفشال برنامجه في التّـنمية السياسية، الذي أراده (خاتمي) عن وعي مقدّمة للتنمية الاقتصادية.
غير أن ما يسجله المنتقدون على الرئيس السابق، أنه ارتكب خطأً كبيرا، حين سمح للمطالبين بتغيير نظام الجمهورية الإسلامية من الليبراليين وعموم أعداء نظام ولاية الفقيه، بالاختباء والتدثر تحت عباءته الواسعة، وبدا - لعدد من أهم المسيطرين على مفاصل السلطة الحقيقية في طهران - وكأنه يشجع ـ ولو بطريقة غير مباشرة - على بروز شخصيات كانت في أقصى اليسار الدِّيني الراديكالي لتتحوّل في عهده الرئاسي الأول إلى خنجر في خاصِـرة الجمهورية الإسلامية، ما أوجد مبرِّرات دستورية للمحافظين المُـمسكين على الدّوام بالقضاء، لشنِّ حملة محاكمات لعددٍ كبير من الصحفيين والمثقفين، بينهم عدد ممّـن شارك في اقتحام السفارة الأمريكية في طهران في نوفمبر 1979.
انشغلت إيران في تلك الفترة في صراع داخلي قِـيمي لتشجيع الحريات الثقافية والاجتماعية في حدود ما يسمح به الدّستور، وسبّـب ذلك لخاتمي مشاكل كبيرة أعاقته عن حسم قضية العلاقة مع الولايات المتحدة، خصوصا وأنه أطل على العالم في أول مقابلة له مع الصحافة الغربية عبر شبكة سي أن أن الأمريكية، مطالبا بأسلوب الراغب، بكسر جدار الشكّ والرِّيبة في العلاقات الإيرانية الأمريكية.
وفي هذا السياق، يذهب مراقبون إلى أنه يتوجب على خاتمي الذي أعلن عن ترشّـحه رسميا للانتخابات القادمة في يونيو المقبل، أن يتعامل معها وكـأنه يخوض السباق لأول مرّة لكي لا يغفل أخطاء الماضي، التي أثرت كثيرا على سُـمعته داخليا، وليستفيد من التطوّر الكبير دُوليا بعد مجيء الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما، حيث يبدو أنه الإيراني الوحيد القادِر على إقناع شعبه بقدرته على تخفيف حدّة التوترات بين إيران والغرب، وعلى إبعاد شبَـح الحرب بشكل نهائي عن بلاده، خصوصاً بعد الشروط التعجيزية التي وضعها الرئيس الحالي محمود أحمدي نجاد للحوار مع أمريكا.
كذلك، يستطيع خاتمي ـ إذا ما عاد إلى سدة الرئاسة ـ أن يُعيد ترميم علاقات إيران الإقليمية مع دول الخليج بشكل خاص، ومع المملكة العربية السعودية تحديدا، مستفيدا من وجود العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز لبناء مرحلة جديدة، بشرط أن يُـغيِّـر في الخطاب الإعلامي التّـحريضي الذي تمارسه إيران، بما يثير في الغالب المخاوف منها.
نجاح محمد علي - دُبــي