تحتفل صحيفة "نوية تسورخر تسايتونغ" بمرور قرنين وربع القرن على صدورها، وتعد بذلك اقدم جريدة سويسرية تواصلت لهذه الفترة مع حفاظها على تقاليدها الراسخة ومواكبتها لكل جديد في عالم التقنية.وقد اعدت المؤسسة الصحفية برنامجا متميزا بهذه المناسبة يشارك فيه على امتداد السنة كوكبة من الساسة والمفكرين والأدباء ورجال الاقتصاد.
كانت البداية من زيورخ في الثاني عشر من يناير من عام 1780 ، عندما طالع السويسريون العدد الأول من صحيفة، نذرت نفسها لتكون صوتا "ليبراليا" يقدم المعلومات بمهارة وتقنية صحفية عالية في السياسة والاقتصاد والعلوم والمجتمع، ومنذ تلك اللحظة وبعد مرور 225 عاما تحتفظ "نويه تسورخر تسايتونغ" بمكانة متميزة بين الصحافة السويسرية وحضور ملحوظ على الساحة الإعلامية الأوروبية والدولية.
بدأت رحلة "نويه تسورخر تسايتونغ" بالصدور في طبعة لا تتجاوز 1000 نسخة ولا تزيد عدد صفحاتها عن 4، تصدر مرة واحدة في الأسبوع قبل قرنين وربع القرن، لتصل إلى 195003 نسخة يوميا وما لا يقل عن 60 صفحة في الأيام العادية مع حضور متجدد على شبكة الانترنت، وهي مسيرة تضع هذه التجربة في مصاف الظواهر الإعلامية الجديرة بالاحترام.
فحين صدرت الصحيفة، حرصت على أن تكون متميزة في أجواء لم تكن سويسرا تعرف فيها حرية التعبير عن الرأي، ولكنها التزمت بالثوابت المفروضة آنذاك، وفرضت نفسها تدريجيا على الرأي العام، فكانت مصدر المعلومات الوحيد للفئة المثقفة المهتمة بالشأن السياسي والاقتصادي في الداخل والخارج، وحصلت بسبب تمسكها بالمصداقية المهنية والأسلوب الرصين، على مرجعية كبيرة بين فئات المجتمع لاسيما النخبة الواعية والمثقفة.
من المحلية إلى العالمية"نويه تسورخر تسايتونغ" كظاهرة، تتمثل في مواكبة القائمين عليها لكل جديد في مجال الصحافة والإعلام، من الصحيفة المطبوعة إلى الكتب المتخصصة ثم مجلة شهرية تهتم بملفات متكاملة، وحضور قوي متجدد بسرعة الحدث على شبكة الانترنت وبرامج تلفزيونية متخصصة، وهي في كل هذا تلتزم بخطها الإعلامي المتميز.
ومن المؤكد أن هذه الظاهرة الإعلامية السويسرية مدينة لبصمات سالومون غيسنر وهو أول من أصدر نويه تسورخر تسايتونغ قبل قرنين وربع، بعد تنقله بين الشعر والأدب والفن، وتوطيد الصلات مع العلماء والأدباء والمفكرين من كل أوروبا وحرصه على استضافتهم في زيورخ.
وفي لحظة ما، أحس غيسنر بأن الرأي العام السويسري بحاجة إلى دماء جديدة في عالم الصحافة، تنقله من الأخبار المحلية إلى كل ما يحدث حوله في أوربا، لذلك كانت صحيفته من الصحف القليلة للغاية التي نقلت للقارئ السويسري أحداث الثورة الفرنسية، وحاولت بتقنيات ذلك الوقت المحدودة أن تجسم بالرسم أهم ما يحدث في باريس.
أصدر غيسنر أولا "مونتاغ تسايتونغ" (بالعربية: صحيفة الإثنين)، ثم تسلم إرث ابيه في مطبعة كبيرة وأنشأ دار "اوريلل و غاسنر" للنشر، كأول من اهتمت بالكتب التي تحمل الفكر البروتستانتي، وذلك في فترة كان التنافس الديني في سويسرا يشهد عملية استقطاب واسعة، لعب فيها الإعلام والاقتصاد دورا كبيرا للغاية، وترك آثاره بادية إلى اليوم.
ثم تحول الإسم في عام 1780 إلى "تسورخر تسايتونغ" لتصدر بمعدل مرتين في الأسبوع، وفي عام 1821 تغير بشكل نهائي إلى "نويه تسورخر تسايتونغ". ومع إضافة كلمة "نويه" (تعني بالعربية جديد) قدمت الصحيفة الجديد إلى القراء، فهي أول من حرصت على ربطهم بما يحدث في العواصم الرئيسية في أوربا، وأدخلت إلى الإعلام السويسري مصطلح المراسلين الصحفيين، لتربط القراء بكل ما يحدث في دول الجوار، في مجالات السياسة والاقتصاد والفكر والتطور العلمي.
وهكذا بدأت الصحيفة رحلتها إلى العالمية والخروج من نطاق الشأن المحلي والداخلي، وهو ما أكسبها منذ وقت مبكر تميزا كبيرا وسط الصحف السويسرية.
أسلوب متميزتعتمد فلسفة التعاطي الإعلامي مع الأحداث في "نويه تسورخر تسايتونغ" على العالمية، فصدر صفحتها الأولى لا يركز بالضرورة على الأخبار السويسرية طالما انها عادية، بل تبرز أهم حدث سياسي أو اقتصادي حدث في اليوم السابق في أي مكان في العالم.
في هذا السياق، تحتل زاوية الأحداث الدولية صفحاتها الأولى، تليها الشؤون الداخلية ثم الاقتصاد الدولي والمحلي مع تقارير حول اسواق المال الهامة في العالم، وركن الأدب والفن ثم الرياضة، إلى جانب الملاحق الاسبوعية المتخصصة في التقنية والمجتمع والمعلوماتية والهوايات وأوقات الفراغ.
قد لا تكون الصحيفة الأولى في سويسرا من حيث التوزيع، لكنها الأولى فيما يتعلق بعكس توجهات السياسة من منظور محافظ يميل إلى اليمين، والاقتصاد الجانح إلى الليبرالية، والاجتماع والثقافة دوليا وداخليا، كما أنها الوحيدة التي يعتبرها الجميع مرجعا هاما، في اللغة الالمانية وتطور تطبيقاتها على المستوى الإعلامي، وفي فن عرض النص الصحفي وأسلوب صياغة المقال، وفي طريقة عرض الموضوعات، حيث لا تلتجئ إلى الصور كثيرا وتعتمد في مقابل هذا على قوة النص واستخدام الجمل التي تحرص على نقل التفاصيل بدقة وعلى تحليل خلفيات الحدث وانعكاساته المستقبلية.
فـ"نويه تسورخر تسايتونغ" هي الصحيفة السويسرية الوحيدة التي يجد فيها القارئ ملخصا يوميا لأهم ما يحدث في العالم، مع التركيز على أهم الأحداث بالتفصيل، وتحرص على جودة وكثافة شبكة مراسليها في أهم العواصم العالمية، لذلك تعتبر مقالاتها التحليلية مرجعا للعديد من الدوائر الهامة في سويسرا والخارج.
.. وللشرق الأوسط مكانته الخاصةيحتل الشرق الأوسط مكانة خاصة في اهتمامات "نويه تسورخر تسايتونغ"، وعلى رأسها الصراع العربي الاسرائيلي حيث غطت باهتمام بالغ التغيرات التي شهدتها المنطقة منذ نصف قرن، ورصدت مجريات الأحداث على كافة الصعد، في تقارير تحليلية مفصلة عادة ما تهتم بانعكاسات ما يحدث في الشرق الأوسط على العالم.
فكانت الصحيفة السويسرية الأولى التي أشارت إلى تأميم النفط الإيراني عام 1950، وتنبأت بانعكاس ثورة يوليو 1952 المصرية على بقية دول المنطقة، وتخوفت من آثار تأميم قناة السويس المصرية عام 1956، وتابعت انعكاسات حرب 1967 من اربعة مناطق في آن واحد (القاهرة وموسكو وواشنطن وتل أبيب)، كما كانت من أول من رحب بمفاوضات السلام بين مصر واسرائيل وصولا إلى الاتفاق النهائي بين الطرفين، ورصدت التغيرات في الصراع الفلسطيني الاسرائيلي على مدى نصف قرن.
ومع أنها حاولت الالتزام بالإعتدال في تحليلاتها، إلا أنها تميل إلى وجهة النظر الرامية إلى التأكيد على "استحالة عودة عقارب الساعة إلى الوراء وأن الأمر الواقع يفرض نفسه دائما".
كما انفردت "نويه تسوخر تسايتونغ" بالاهتمام بقيام دولة الإمارات العربية المتحدة سنة 1971 وانعكاسات ذلك على منطقة الخليج، وأفردت صدر صفحتها الأولى لخبر قيام الوحدة اليمنية في مايو 1990 بتحليل مستفيض.
وظلت الصحيفة تتابع ما يحدث في المنطقة العربية من العراق إلى شمال افريقيا بدقة متناهية، أولا من خلال أرنولد هوتينغر، أبرز مراسليها في الشرق الأوسط على مدى أكثر من ثلاثة عقود، خلفه فيها فيكتور كوخر، المقيم حاليا في قبرص. حيث تابعت الصحيفة من خلالهما عن كثب مسار الثورة الإيرانية، والتطورات السياسية في تركيا، وكانت ممن تنبأوا بظهور النمور الآسيوية كقوة اقتصادية عالمية.
ليبرالية اقتصاديا ... يمينية سياسياوعلى الرغم من أن الصحيفة الصادرة في زوريخ تتمسك بأنها أول "يومية ليبرالية في سويسرا"، إلا أن هذا لا يعني بأنها منفتحة على جميع التيارات، بل كانت مقالاتها حربة موجهة إلى الشيوعية وحلف وارسو والنظام الشمولي السوفياتي سابقا، إلى حين انهيار جدار برلين 1989، وهو الحدث الذي اعتبرته انتصارا لتوجهاتها الفكرية.
كما اتخذت الصحيفة موقفا مناهضا لحركة 1968 الطلابية التي شملت معظم عواصم أوروبا الغربية، ولم تكن منصفة لتحركات النقابات العمالية والمهنية السويسرية، بل تميزت بانتقادها الدائم لها وبتحليلاتها التي عادة ما تعتبر أن برامجها "غير واقعية".
وخلال هذه الرحلة الطويل ظلت "نويه تسورخر تسايتونغ" حريصة على الدوام على مواكبة كل جديد في عالم الصحافة، ويتوقع رئيس تحريرها الحالي هوغو بوتلر أن يتحول القارئ التقليدي للصحيفة للإعتماد بشكل قوي على صحافة الإنترنت، وهو ما يفرض أيضا حسب رأيه "تطويرا ليس لمواكبة هذا المجال وإنما أيضا للإبتكار والابداع فيه"، إلا أنه يشدد على ضرورة "الحفاظ على النهج الإعلامي الذي اتسمت به طيلة تاريخها منذ عام 1780 وحتى اليوم".
تامر أبو العينين - سويس انفو