دخلت أزمة دارفور أمس منعطفاً خطيراً بعدما أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر البشير بسبعة اتهامات تتعلق بـ «جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية» في الإقليم المضطرب. وأثارت المذكرة ردود فعل دولية متباينة، فيما قرر اجتماع استثنائي لوزراء الخارجية العرب إرسال وفد إلى مجلس الأمن لمحاولة إرجاء تنفيذها عاماً.
وفي وقت دعت المحكمة الخرطوم إلى التعاون وتسليم البشير، مهددة باللجوء إلى مجلس الأمن في حال رفضها، شددت الحكومة السودانية على رفضها القرار الذي اعتبرته جزءاً من «مؤامرة استعمارية جديدة». وعلمت «الحياة» أن قادة الحكم أقروا خطة لمناهضة قرار توقيف البشير سياسياً عبر «خطوات محسوبة» تضع الوجود الغربي في البلاد «في حال قلق»، وتبقي الباب مفتوحاً أمام تحرك عربي - أفريقي لتعليق تنفيذ القرار عبر مجلس الأمن، خصوصاً أن الخرطوم كانت تلقت وعوداً روسية وصينية باستخدام حق النقض «الفيتو» إذا طرح القرار.
وأعلنت الناطقة باسم المحكمة لورانس بليرون في مؤتمر صحافي في لاهاي أمس أن الدائرة التمهيدية الأولى أصدرت مذكرة توقيف بحق البشير بتهمتي «ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية»، وأسقطت تهمة الإبادة الجماعية لعدم كفاية الأدلة. وقالت إن البشير يُشتبه في أنه «مسؤول جنائياً، باعتباره مرتكباً غير مباشر أو شريكاً غير مباشر، عن تعمد توجيه هجمات ضد جزء كبير من السكان المدنيين في دارفور، وعن القتل والإبادة والاغتصاب والتعذيب والنقل القسري لأعداد كبيرة من المدنيين ونهب ممتلكاتهم». وشددت على أن منصبه «لا يعفيه من المسؤولية الجنائية ولا يمنحه حصانة من المقاضاة أمام المحكمة».
ورغم إعراب المدعي العام للمحكمة لويس مورينو أوكامبو عن أمله في اعتراض طائرة البشير في الأجواء الدولية خلال أسابيع، وتحديداً في طريقها إلى القمة العربية المقررة في الدوحة نهاية الشهر الجاري، فإن الخرطوم أكدت أن تحركات البشير الخارجية لن تتأثر وأنه سيشارك في القمة. وقال أوكامبو لـ «الحياة» إن عملية الاعتقال ممكنة فقط عبر اعتراض الطائرة وإجبارها على النزول في أحد مطارات الدول التي ستعتقله وتسلمه إلى المحكمة، «لأن الأمم المتحدة لا تملك آليات قانونية للدخول إلى السودان واعتقاله».
وباشر الرئيس السوداني أمس مهماته في شكل طبيعي. وشهد احتفالاً عسكرياً في منطقة كرري في شمال أم درمان لمناسبة تخرج دفعة جديدة من الطيارين العسكريين، تزامناً مع المؤتمر الصحافي الذي عقدته المحكمة لإعلان قرارها. وعندما كان في طريق عودته إلى الخرطوم، خرج مئات في طرقات أم درمان معربين عن تأييدهم له، انضم إليهم آلاف في تظاهرة حاشدة في العاصمة.
واعتبرت حركات التمرد في دارفور قرار المحكمة «نصراً تاريخياً». وخرج أنصارها في تظاهرات مؤيدة للقرار في بعض العواصم الغربية وأمام مقر المحكمة في لاهاي. ورأى رئيس «حركة تحرير السودان» عبدالواحد نور أن «المذكرة ستغير الكثير»، فيما أعلنت «حركة العدل والمساواة» التي وقعت اتفاق «حسن نوايا» بعد مفاوضات مع الحكومة السودانية في الدوحة، أن التفاوض مع البشير «لم يعد ممكنا» بعد صدور المذكرة.
وأكد وزير العدل السوداني عبدالباسط سيدرات، أن الخرطوم لن تتعامل مع المحكمة لأن قراراتها «سياسية وجاهزة مسبقاً»، مشدداً على أن البشير سيواصل ممارسة مهماته وفقاً للدستور «ولن تستطيع أي دولة المس بذلك». ووصف مستشار الرئيس مصطفى عثمان إسماعيل المحكمة بأنها «واحدة من آليات الاستعمار الجديد». واستدعت الخرطوم ممثلي 10منظمات إنسانية أجنبية عاملة في دارفور وأبلغتهم «انتهاء الترخيص الممنوح لها».
وتباينت مواقف القوى السياسية السودانية إزاء القرار. ورأت «الحركة الشعبية لتحرير السودان» التي تحكم الجنوب أن «المعالجة تكمن في تحقيق مصالحة وتضميد الجراح»، مؤكدة أن زعيمها سلفاكير ميارديت «يقف إلى جانب رئيسه البشير لإقرار السلام حتى لا يتعرض إلى هزة». وحذر مساعد الرئيس زعيم «حركة تحرير السودان» مني اركو مناوي من استغلال جهات لم يسمها الأجواء التي خلقها قرار المحكمة، لفرض أوضاع «مأسوية وكارثية».
ولم تكن ردود الفعل الدولية أحسن حالاً، إذ طبعها انقسام لافت. وفي وقت شدد البيت الأبيض على أن المسؤولين عن «الفظائع» في دارفور يجب أن يحاسبوا، رأت موسكو أن صدور المذكرة «سابقة خطيرة». ودعا الاتحاد الأوروبي الخرطوم إلى «التعاون الكامل» مع المحكمة، وضبط النفس. وطالب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الحكومة السودانية بـ «ضمان أمن المدنيين ومواصلة التعاون الكامل مع كل مؤسسات الأمم المتحدة وشركائها»، فيما اعتبر الاتحاد الافريقي أن المذكرة «تهدد السلام في السودان».
وفي القاهرة، قرر وزراء الخارجية العرب بعد اجتماع استثنائي أمس، إرسال وفد إلى مجلس الأمن لإرجاء تنفيذ قرار المحكمة لمدة عام. وأعربوا عن انزعاجهم من القرار، مؤكدين تضامنهم مع السودان. وتحدثت مصادر عربية لـ «الحياة» عن ضرورة اتخاذ الحكومة السودانية «إجراءات عملية لمحاكمة الضالعين في الجرائم في دارفور من أجل دفع الجهود العربية في هذا الصدد». وقالت إن «دولاً غربية مستعدة لتسوية الأمر بشروط».
وأشارت إلى أن «الحديث يدور عن صفقة سياسية بين السودان من جهة وبريطانيا وفرنسا وأميركا من جهة أخرى، يتم بمقتضاها تسليم شخصيات سودانية إلى المحكمة الجنائية الدولية بينها (وزير الشؤون الإنسانية المطلوب لدى المحكمة) أحمد هارون ونقل وزراء من مناصبهم وإعادة النظر في موضوع القوات المختلطة في دارفور».
لكن مصادر مطلعة في مجلس الأمن أكدت لـ «الحياة» أن المجلس لن يتحرك في اليومين المقبلين كما تتمنى دول عربية وأفريقية لإرجاء تنفيذ قرار المحكمة، استناداً إلى المادة 16 من ميثاقها التي تسمح بإرجاء مذكرات التوقيف لمدة عام بموجب قرار يصدره المجلس تحت الفصل السابع. وقالت ان الوفد الليبي، وهو العضو العربي الوحيد في المجلس، لن يتحرك لتلبية طلب عربي قدمه وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط في هذا الإطار قبل بضعة أيام.
وأشارت إلى أن «الوفد الصيني ووفوداً أخرى تعمل على إقناع الليبيين بعدم التسرع أو دفع الأمور بسرعة في مجلس الأمن. وعليه، فلا يبدو أن هناك حركة حتمية في اتجاه تحرك آني في المجلس». وأكدت هذه المصادر المطلعة على مواقف الدول الأعضاء في المجلس أن سفراء الدول الخمس دائمة العضوية ليسوا جاهزين «لطبخ» شيء حول المادة 16.
ورأى الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسي أن قرار المحكمة «تطور جلل... لم يأخذ في اعتباره متطلبات تحقيق السلام في دارفور». وأشار إلى أن الجامعة «مع إجراءات العدالة، لكننا نخشى على استقرار الأوضاع في دارفور ولا يجب أن يحدث تناقض بين الأمرين»، داعيا مجلس الأمن إلى إرجاء القرار لمدة عام «للملمة الأمور». وأعربت مصر عن «إنزعاجها الشديد» بسبب الانعكاسات السلبية المحتملة للمذكرة على الاستقرار في السودان، في حين رأت فيها موسكو «سابقة خطيرة»، بينما أيدتها فرنسا ودعت الخرطوم إلى التعاون الكامل معها.