حذرت مؤخرا وزارة الخارجية الهولندية مواطنيها من زيارة مدينتي غدامس وغات، خوفا من تعرض السواح الهولنديين للخطف على يد تنظيمات أصولية متشددة، تنتشر في الصحراء الكبرى، وكانت المدينتان قد اجتذبتا أعدادا متزايدة من السواح الهولنديين، منذ الانفتاح الجزئي لليبيا على العالم الخارجي عام 2003. لم يعشق الهولنديون رؤية الطوارق، أو الرجال الزرق بكل
السخاء في الألوان يميز البيت الغدامسي |
الأساطير والغموض الذي أحيط بهم، ولكنهم عشقوا أيضا ذلك المعمار الفريد، الذي تميزت به مدينة غدامس الأثرية، والذي جعل منظمة اليونيسكو تصنفها محمية تاريخية تحظى بإشرافها ورعايتها، خاصة وأنها من بين ثالث أقدم مدينة مأهولة في العالم، وأكدت الآثار التي اكتشفت بها أن الإنسان سكنها منذ عشرة آلاف عام.
جوهرة الصحراء
تقع غدامس أو كما يسميها الليبيون "جوهرة الصحراء"، على بعد 600 كلم جنوب غرب طرابلس، بالقرب من المثلث الحدودي الذي يفصل ليبيا عن تونس والجزائر، وغدامس تحريف للاسم الروماني غداموس، والذي يعني بلاد الجلود، وحتى زمن قريب كانت صناعة الجلود ودباغتها من بين أهم الحرف المزدهرة في الواحة، التي أصبحت آهلة السكان بفضل عين فرس، التي منها ترتوي غابة النخيل، والتي جعلت المدينة أهم محطة لتجارة القوافل طوال قرون متعاقبة، قبل أن يسيطر عليها الإغريق والرومان، وحتى بعد أن خضعت لحكم المسلمين عام 44 هجرية، بقيادة عقبة بن نافع الفهري، وفي العصر العثماني الذي أمتد خمسة قرون في ليبيا، وصلت غدامس إلى ذروة مجدها كمحطة بالغة الأهمية لتجارة القوافل مع إفريقيا، أما في العصر الاستعماري الإيطالي فقد استهوت الجنرال بالبو حاكم ليبيا، الذي بنى فيها أول مطار في تاريخها، كما بنى فندق عين الفرس، بعد احتلال الإيطاليين للواحة عام 1924، وكان بالبو يقضي معظم اجازاته بها ليمارس هوايته المفضلة في صيد الغزال والودان، الذي كان يعيش بالقرب منها قبل أن يندثر بالكامل، كما سيطر الفرنسيون على غدامس مع نهاية الحرب العالمية الثانية، قبل أن يرحلوا عنها عام 1955.
معمار عنصري
على عكس غات التي يعيش بها الطوارق الملثمون، لا يوجد في غدامس ملثمون، بالرغم من أن الطوارق يشكلون جزءا من أعراقها التي اندمجت بشكل كامل، وذابت في تلك البوتقة العجيبة، وهم مزيج من الطوارق، الأمازيغ، العرب، والأفارقة، كما يختلف سكان غدامس على سكان غات، في كونهم حضر بينما يعتبر طوارق غات أقرب إلى البدو من سكان الصحراء القاحلة، لذلك تتمتع المرأة الطارقية في غات بهامش واسع، بينما يضيق هذا الهامش في غدامس، حتى أنه لا يمكن رؤية النساء، اللواتي لهن طرقا علوية، بينما للرجال طرقا سفلية، وقد يغادر الرجل وزوجته البيت لزيارة بيت آخر، ولكنه يغادر من الطريق السفلي، بينما تغادر زوجته من الطريق العلوي، ويلتقيان في البيت الذي يريدان زيارته، لذلك تتميز البيوت الغدامسية بمدخلين أحدهما سفلي للرجال، وآخر علوي للنساء.
الرجال يسيرون من تحت والنساء من فوق |
ما يميز البيت الغدامسي هو "التمانحت"، وهو القاعة التي تتوسط البيت، والتي تعتبر غرفة المعيشة، وعلى جدرانها توضع الدواليب والخزائن، وتعلق الأطباق المصنوعة من سعف النخيل، والصحون النحاسية، والمرايا، كما تتميز القاعة بسخاء عجيب في النقوش والألوان، وتطل على القاعة عدة غرفة، منها غرفة الزواج، وغرفة الزينة، وغرفة للأطفال.
نظام الري الفريد
لم تفصل هذه الجدران والدروب العلوية النساء عن الرجال، بل عملت أيضا على عزل حرارة الشمس، التي تصل في بعض الأحيان إلى خمسين درجة مئوية في الظل، ويغلب على المدينة اللون الأبيض ليعكس حرارة الشمس إلى الخارج، ولكن اللون الأحمر يسيطر على الزخارف داخل البيوت، وخاصة عندما يقترب من السقف، حيث تنفجر الألوان بشكل صارخ. وبمثل هذه البراعة في بناء البيوت تفنن أهل غدامس في اقتسام عين الفرس، بحيث يستغلون كل قطرة تخرج منها عن طريق نظام ري يسمح بتوزيع المياه من خلال خمس سواقي تتفاوت أحجامها، في متوالية حسابية من أعجب ما قد يصادفه المرء، والأعجب أن لا أحد من السكان يستطيع أن يحصل من هذا النظام على أكثر من حصته، وهذا النظام قديم جدا ويعتمد على تكنولوجيا بدائية ولكنها فعالة، ولهذا يغلب على شخصية سكان غدامس الهدؤ والانبساط، والتفرغ إلى الإبداع والعلوم، لذلك لعبت المدينة دورا مهما في نشر الإسلام عن طريق القوافل في إفريقيا، واشتهرت أيضا بمكتبتها الضخمة وبمخطوطاتها النادرة التي حافظ عليها السكان، ووردت غدامس في كتاب ياقوت الحموي "معجم البلدان"، فقال عنها "في وسطها عين أزلية وعليها أثر بنيان عجيب رومي يفيض الماء فيها، ويقسمه أهل البلدة بأقساط معلومة لا يقدر أحد يأخذ أكثر من حقه وعليها يزرعون". ويقصد ياقوت بالرومي الآثار الرومانية التي لا تزال هناك حتى الآن، والتي يطلق الأهالي عليها اسم "تمسمودين"، والتي تعود إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد، عندما تمكن الرومان من احتلالها بقيادة كورنيليوس، وعلى السور الغربي للمدينة يوجد قصر مقدول، وهو حصن روماني يعتقد أن الامبراطور كركلا، ابن الامبراطور سبتيموس سفيروس الذي ولد في مدينة لبدة على الساحل الليبي، هو من أمر ببنائه لحماية المدينة من هجمات قبائل الجرمنت.